فهد الدغيثر
فهد الدغيثر
كاتب سعودي

«أرامكو» تحرج الوزارات

آراء

تسلمّت «أرامكو» مشروع مدينة الملك عبدالله الرياضية، وأنهت مهمة البناء في عام واحد. قبل ذلك تولّت بناء جامعة كاوست وأنهتها في وقتها.

أرامكو بصراحة تضرب أروع الأمثلة في القدرة على التنفيذ وبالجودة المطلوبة. هناك مثل شعبي قديم أذكره منذ نعومة أظافري يقول: «الرخيص مخيس»، ويعني ببساطة أن الأرخص ليس هو الأفضل، أو بمعنى آخر تجنب السلعة الرخيصة جداً. أتناول هذا المثل كتوظيف لملاحظاتي وملاحظات الكثير من المهتمين حول نظام المناقصات الحكومية في المملكة، وخصوصاً مشاريع البناء.

كما نعلم جميعنا هذا النظام يركز كشرط أساسي على ترسية المشاريع إلى المتعهد الأقل سعراً على افتراض توافر بقية الشروط الفنية، وهو نظام ربما يبدو ظاهراً جيد، غير أن المشكلة تكمن في التفاصيل.

وجود مثل هذا النظام يتطلب وجود الجهاز الحكومي القادر على اختيار المنفذ «المقاول» الأفضل من خلال قدرة أفراد هذا الجهاز على تقويم المقاولين تقويماً مهنياً، ثم القدرة أيضاً على الإشراف الدقيق والعادل، الذي يستند على أحدث المعايير الدولية في الإشراف على المشاريع.

نتيجة لإصرارنا على التمسك بهذا النظام، ونتيجة لعدم توافر مثل هؤلاء الأفراد في الكادر الوظيفي الحكومي بمراتبه ورواتبه التي نعرفها، فتمت ترسية مشاريع على أطراف غير قادرة على التنفيذ، وتم اختيارهم فقط لأن عطاءاتهم كانت الأقل كلفة.

بسبب ذلك تأخرت وتعثّرت الكثير من المشاريع لدينا، وهي في الغالب مدارس ومستشفيات، وأصبح الحديث عن ذلك على كل لسان. الواقع أنه لا يمكن للمواطن العادي وهو في طريقه في أي شارع في مدننا السعودية أن يغفل عن مشاهدة مشروع من هذه المشاريع، التي توقفت بعد تشييد الهيكل الأسمنتي فقط، إذ تظهر على الموقع علامات واضحة تشير إلى هجرة الشركة التي بدأت بالبناء.

في تصريح سابق نشرته «عكاظ» يقول رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للهندسة المدنية الدكتور عبدالله الغامدي، في مؤتمر صحافي عقد في جدة قبل عامين حول ظاهرة «تعثر المشاريع الحكومية»، التي تخطت أعدادها وقيمها وأحجامها المعدلات المقبولة، عن أن «إجمالي حجم المشاريع المتعثرة خلال الأعوام الثلاثة إلى الأربعة الماضية قُدرت بحوالى تريليون ريال».

نتكلم هنا عن ألف بليون ريال. رقم مهول أليس كذلك؟ وفي كل إمارة تقريباً من المملكة نقرأ عن تشكيل لجان لدرس وتحليل هذه «المشاريع» بما يؤدي إلى حلول لمشكلاتها، ومن ثم التوصية بإكمالها.

في الجانب الآخر، يوجد لدينا مشاريع مبهرة في تنفيذها، ومن أهمها مشاريع توسعة الحرمين في كل من مكة والمدينة بما في ذلك مشاريع المشاعر المقدسة، والبنى التحتية الهائلة بالقرب من مكة. وهناك مشروع جامعة «كاوست» الذي تم تنفيذه بسرعة فائقة، وبإشراف مباشر من شركة أرامكو السعودية، التي نفذت أيضاً بناء مدينة الملك عبدالله الرياضية في جدة في زمن قياسي، وهو عام واحد بكل ما حمله المشروع من تحديات، وافتتحه الملك عبدالله قبل ثلاثة أيام في حفلة بهيجة ومبهرة.

ولا ننسى تنفيذ مجمّع جامعة الأميرة نورة في الرياض، وهو الآخر ضخم جداً، ومدة تنفيذه قصيرة قياساً بالمساحة الشاسعة التي يشغلها، وأشرفت على تنفيذه وزارة المالية بشكل مباشر، وليست وزارة التعليم العالي كما قد يخطر على البال. العامل المشترك في كل هذه المشاريع هو إدارة المشروع، ذلك أن جميع هذه المشاريع، حتى وإن كانت في معظمها تخضع للمناقصة، لكنها حظيت أيضاً بمتابعة شخصية من خادم الحرمين الشريفين، ما يعني غياب التقاعس والتأخير وعدم السماح لأي ظروف تعيق البناء.

بمعنى آخر أن المشرف والمدير التنفيذي للمشروع يتجنب الفشل، لأن ذلك سيعني تلقائياً محاسبته وإبعاده عن وظيفته مستقبلاً، خصوصاً وهو يتطلع إلى المحفزات التي سيحظى بها بعد إتمام ما أوكل إليه بنجاح.

هل توجد مثل هذه العوامل «الحاسمة» في المشاريع المتعثرة التي أشار إليها المهندس الغامدي في ذلك المؤتمر الصحافي في جده قبل عامين؟ أجزم بأن الإجابة هي النفي. ما الحل إذاً؟

هناك من يقترح تكليف أرامكو بتنفيذ المشاريع الحكومية. أنا شخصياً أتمنى ذلك وأردد تساؤلاً مؤرقاً لا يفارق تفكيري في كل وقت، وغردت به أكثر من مرة. ماذا لو أننا كنا كلفنا أرامكو بالتخطيط والبناء لمرافق الدولة، ووضع أنظمتها الإدارية منذ اكتشاف النفط في بلادنا، وتأسيس هذا الكيان الفذ. من المؤكد أن المملكة كانت ستأخذ شكلاً ومضموناً مختلفاً عن الحال اليوم. ليس هذا فقط، بل ربما اختلفت منطقة الخليج برمتها.

طبعاً هذا لم يحدث لأننا آثرنا الاعتماد على الإخوة العرب في الشام وفي أفريقيا لقيادة التنمية، وبالمناسبة فالإمارات تجنبت الوقوع في هذا الخطأ الاستراتيجي المدمّر، وبدأوا عند النقطة التي توقف عندها الغرب والشرق المتقدم.

هناك من يتحدث عن تأسيس ما يشبه الوزارة المتخصصة في الترسية للمشاريع والإشراف والمتابعة على غرار ما كان يعرف سابقاً بوزارة التشغيل، ولكن بأدوار أكثر ومسؤوليات وتأهيل أعلى، وهناك من يتحدث عن «هيئة» عليا للمشاريع يناط بها التعميد والإشراف على معظم مشاريع الدولة.

الذي لا يمكن الاختلاف عليه أن الوزارات الحكومية في المملكة لم تؤسس لتصبح إدارات ترسية وإشراف على المشاريع، بل مهماتها الأساسية التشغيل وضبط الجودة والمخرجات سواء خدمات أم أفراد. لذلك فنحن عندما نضع تنفيذ التوسع والبناء على عاتقها، فنحن في الواقع نظلم القائمين على هذه الوزارات لأن هذا ليس من صلب عملهم، وبالتالي فهم ليسوا أفضل من يقوم بالمهمة.

سواء استمرت استعانتنا بشركة أرامكو أم أسسنا هيئة مستقلة ومسؤولة عن تنفيذ المشاريع، فإن هذا أفضل بمراحل من بقاء الحال كما هي عليه اليوم. لعل الحل الأكثر مواكبة لواقعنا تطوير المرونة الكافية لدى الأجهزة الحكومية للتعاقد مع دُور استشارية كبرى لتنفيذ خططها التوسعية في البناء، بعد أن يتم اعتماد المواصفات الدنيا لهذه المشاريع.

تتولى هذه الدُور الكبيرة والمعتبرة وتحت شروط تعاقدية واضحة كامل التطوير بدءاً من وضع التصاميم إلى اختيار المقاولين إلى تعيين المشرفين وتسليم المشاريع. تبقى مسؤولية الجهة الحكومية التمويل فقط.

وإذا رغبنا في المزيد من المراجعة، يمكن للجهة الحكومية أن تستعين بمشرف مستقل يخضع الأرقام ويقارنها بالتكاليف المعروفة المعتادة في السوق، ويراقب عمل الدار الاستشارية المنوط بها البناء.

الأمر الآخر الذي يتوجب علينا التفكير فيه تحفيز القائمين على إنجاز المشاريع سواء الموظف الحكومي في الوزارة أم المسؤولين في الدور الاستشارية المعتمدة عبر برامج محددة، تمنح المتفوقين منهم مبالغ مالية مجزية، نظير إنجاز مهماتهم في أوقاتها المحددة وبالجودة المطلوبة.

علينا أن ندرك أن إنفاق مثل هذه المحفزات، حتى وإن ظهرت أرقامها كبيرة بعض الشيء، إلا أنها أقل ثمناً من الكلفة التي سنعاني منها بسبب تعثر المشروع، أو حتى تأخير تسلمه.

هناك عدد من إجراءات الضبط التفصيلية التي لا تتسع المقالة للخوض فيها، وهي تفاصيل مهمة على كل حال. فهل تتخلص الوزارات والأجهزة الحكومية من القيام بوظائف لا علاقة لها بها، ويُمنح القطاع الخاص هذه المهمات، وتُوزع الأدوار كما ينبغي، وينتفع من هذه المشاريع أكبر عدد ممكن من المؤسسات والأفراد، وتتفرغ الوزارات إلى عملها الأصلي وهو التشغيل بأعلى المواصفات من حيث الجودة والنتائج؟ هذا ما نتمناه.

المصدر: الحياة