سعود كابلي
سعود كابلي
كاتب سعودي

أزمة إدارة الأزمة

آراء

كتبت في أغسطس ٢٠٠٩، بصحيفة الوطن مقالا بعنوان: “١١ سؤالا مهما تطرحه أنفلونزا الخنازير أمام الدولة”، تناولت فيه ما كان يبدو في حينها احتمالا لتفشي وباء فيروس أنفلونزا الخنازير في المملكة خاصة مع اقتراب كل من موسم الحج ودخول المدارس في ذلك الوقت، وكانت خطة وزارة الصحة آنذاك تتلخص في حجز ٤ ملايين جرعة من العقار المضاد للفيروس. وقتها كان التخوف من وصول الفيروس لمنطقتنا لا أكثر، أما اليوم فإن فيروس كورونا (متلازمة الشرق الأوسط التنفسية) لدينا وحصيلته الكبرى من الضحايا بيننا. ويعيد التاريخ نفسه لنجد أنفسنا أمام التحدي ذاته – بشكل أعنف – وأمام التخوف ذاته مع اقتراب موسم الحج وبوجود الأطفال في مدارسهم.

مقالي في حينها حاول تجاوز اللحظة بالتركيز على مسألة إدارة الأزمات والتعامل معها لدينا، فنحن نفتقد وجود منظومة متكاملة لإدارة الأزمات، وما كان قائما في حينها مع فيروس أنفلونزا الخنازير يظل قائما اليوم مع فيروس كورونا، والأسئلة نفسها التي طرحت لا تزال قائمة. في عام ٢٠٠٩ حجزت وزارة الصحة ٤ ملايين جرعة، لكن السؤال: هل تملك وزارة الصحة البنية التحتية اللازمة للتعامل مع تفشي الوباء – لا قدر الله – واحتياجها لاستخدام مثل هذا العدد الهائل من الجرعات في دفعة قصيرة؟

إن ما نزال نفتقده في المملكة هو وجود جهة إدارية متخصصة ومخولة بإدارة الأزمات بصلاحيات متكاملة واستراتيجيات واضحة، على غرار الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ (FEMA) بالولايات المتحدة. معظم الكوارث الطبيعية التي مررنا بها كشفت عن وجود هذا القصور، خلال سيول جدة عام 2011 بدا واضحا أن التعامل مع الكارثة في بدايتها كان ارتجاليا من الجهات المختلفة أكثر مما هو عملية مؤسساتية تتم باحترافية، وبالتنسيق بين الجهات الإدارية المختلفة التي لها ضلع في التعامل مع الأزمة أوالكارثة.

إن مواجهة الأزمات والكوارث تتطلب سرعة في اتخاذ القرار، وتوحيد للجهود الإدارية المختلفة التي لها شأن بالتعامل معها بما في ذلك تبادل المعلومات بين الجهات الحكومية المختلفة وسرعة الاستجابة في تمويل وصرف الأموال اللازمة للتعامل مع الكارثة، فطبيعة الكوارث والأزمات تتطلب تجاوزا لدورة “الروتين البيروقراطي”. في الولايات المتحدة على سبيل المثال يتم في حالات الأزمات والكوارث تعيين ما يطلق عليه بصورة غير رسمية “قيصر” (Czar) للتعامل معها، كشخص مخول من رئيس الدولة كمرجع أعلى للتعامل مع الأزمة أو الكارثة تخول له كافة الصلاحيات فيما يتعلق بإدارتها تحديدا، بما في ذلك التنسيق بين الجهات الحكومية وإصدار القرارات، حتى لا تتضارب الجهود، وقد حدث هذا على سبيل المثال في عام 2004 مع تعيين “قيصر” للتعامل مع أنفلونزا الطيور (Bird Flu Czar).

إن التضارب في الصلاحيات بين الجهات الحكومية أو ضعف التنسيق بينها أو عدم السرعة في الاستجابة سواء على صعيد دفع الأفراد والأموال هي العوامل الأساسية التي تفاقم من أي أزمة أو كارثة. حدث هذا عندنا في عام 2000 مع تفشي “حمى الوادي المتصدع” في جنوب المملكة التي حصدت الكثير من الأوراح من البشر والماشية على السواء. وكان أحد الأسباب التي فاقمت الأزمة في بدايتها هو التضارب بين كل من وزارتي الصحة (المسؤولة عن البشر) ووزارة الزراعة (المسؤولة عن الماشية) كون “حمى الوادي المتصدع” تصيب كليهما وتنتقل من الحيوانات إلى البشر. يضاف إلى ذلك أن وزارة المالية في حينه تأخرت نظرا للدورة البيروقراطية المعهودة في صرف ما يلزم من أموال لجهود مكافحة انتشار الحمى، إضافة للمعضلة الأساسية المتلخصة في عدم معرفة من هي الجهة الأساسية المخولة لإدارة الأزمة في حينه، وهو ما استلزم إنشاء لجنة عليا للتعامل مع تلك الكارثة بشكل محدد وخاص.

المعضلة الأساسية هي في النظام البيروقراطي الذي وجب تحديثه ليتوأم مع العصر، فلا يمكن لنا مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين اعتمادا على بيروقراطية تعود في أساليب ومناهج عملها لبدايات القرن العشرين. البيروقراطية (Bureaucracy) المشتقة من كلمتين: (Bureau) التي تعني مكتب و(Cracy) التي تعني حكم – أي “حكم المكاتب”، نشأت بالأساس كوسيلة لترشيد إدارة الدولة الحديثة والانتقال بها من مرحلة الإدارة الفردية لبلاط الحاكم إلى مرحلة أكثر مؤسساتية يكون فيها للدولة أجهزة مسؤولة عن مهام معينة، بها موظفون متخصصون لهم نظام يحكمهم وإجراءات إدارية بدلا من أن تتم الإدارة بشكل غير منضبط، وما لم تتطور البيروقراطية مع تطور الواقع الذي تخدمه فإنها تتحول من وسيلة للترشيد والخدمة إلى عائق وعبء على الدولة. هذا ما نواجهه اليوم.

إن البيروقراطية التي نشأت مع نشوء الدول العربية الحديثة لخدمتها توقفت عند مرحلة تاريخية معينة، وإلا كيف يمكن لنا التعامل مع متطلبات وتحديات العصر الحديث إذا كان يتوجب على كل وزارة حين تخاطب الوزارة الأخرى أن ترسل خطابا يحتاج لدورة مستندية طويلة من الصادر والوارد وتوقيعات المسؤولين! إن الجهاز البيروقراطي برمته غير مؤهل للتعامل مع أزمة كأزمة كورونا إلا إذا تم إنشاء آلية خاصة خارج هذا الجهاز للتعامل معها، ورويدا رويدا نجد أننا في كل مرة نحتاج فيها للتعامل مع تحد ما إن ننشئ جهازا وآلية موازية لآليات وأجهزة الدولة القائمة.
الدولة العربية الحديثة تحولت بحسب ما أشار له أحد الكتاب العرب إلى “دولة وكلاء الوزارات”، حيث بات للأجهزة الإدارية للدولة صلاحيات كبيرة لكنها جميعها تفقد فاعليتها ما لم يتم تطوير البيروقراطية نفسها لكي تتفاعل الصلاحيات مع بعضها وتندمج حسب الحاجة وبما يخدم الهدف النهائي – أي الصالح العام، وبما يحول الجهات الحكومية من جزر منعزلة تتصارع مع بعضها البعض إلى تروس في آلة تتفاعل مع بعضها البعض.

المعضلة لا تكمن في الأفراد، بقدر ما هي في منظومة العمل. فالبيروقراطي بطبيعته محكوم بنظام لسير العمل وبإجراءات إدارية محددة، ومن ثم فإن أي أزمة أو كارثة تأتي من خارج هذا النظام أو الإجراءات لا يمكن له التعامل معها بسبب طبيعة النظام البيروقراطي نفسه. أزمة كورونا مثال آخر يكشف لنا أن الأزمة الأساسية هي البيروقراطية التي آن أوان تحديثها بشكل جذري، بما يتواءم مع متطلبات الدولة الحديثة في القرن الحادي والعشرين. وكما نكافح كورونا اليوم علينا مكافحة البيروقراطية بالإصلاح الإداري.

المصدر: الوطن أون لاين