هالة القحطاني
هالة القحطاني
كاتبة سعودية

أشد من وقع الحسام المهند

آراء

أن يسلب كيانك وتهمش وتوضع في صورة بشعة مغايرة لحقيقتك، لظلم يدعو لكثير من الضيق، وحين يصر من يجور عليك على المبالغة في ظلمه لثقته بأن مكانته الاجتماعية أو الأسرية أو الإدارية تمنعك حتى من فكرة الاقتصاص منه، لظلم أكبر إذا وقع على قلبك يكسره وربما يدميه لمدة من الزمن، خاصة حين يستنكر عليك من ظلمك شعورك بالحزن أو بالغضب.

أمام بوابة المستشفى رأيته جالسا “أبو عبد المحسن” صاحب الخبرة الذي تعلمت منه وعملت معه لثلاث سنوات، قبل أن يضطر للتقاعد المبكر بسبب إصابته بمرض السكري بعد أن أمضى أكثر من 29 سنة في الخدمة. عرفته محبا للقراءة لا يكتفي بالمعلومة دون أن يبحث عن مصدرها ومرجعها، كان من النوع الذي لا يشتكي من ضغط العمل حتى أثناء مرضه، بل كان يبرر بأنه إذا لم يتحمل وعكة بسيطة، فكيف يلهم زملاءه من الجيل الجديد، حين رآني اعتلت وجهه ابتسامة عريضة، فسألته عن صحته وأحواله بعد التقاعد، فتغيرت على الفور ملامح وجهه، وأطلق تنهيدة أغرقت عينيه بالألم. جلس على المقعد الخشبي وطأطأ رأسه للحظة ثم رفعها محتفظا بابتسامته، قائلا “في الأسبوع الأول صُدمت بفتور أسرتي وكأنني ضيف ثقيل طرق بابهم في وقت غير مناسب، وفي الأسبوع الثاني تملكني شعور المتطفل الذي يتلصص على الآخرين من النافذة. حين أجلس معهم على طاولة الطعام أشعر بأنني كالمشرد الذي التُقِط من الشارع ليوضع أمامه الطعام دون أخذ رأيه، ثم ينظرون إليّ باستغراب إذا بدت على وجهي ملامح الحزن أو الضيق، ليسود الوجوم على الوجوه في كل مرة أتواجد بينهم لدرجة تدفع للاكتئاب. في الأسبوع الثالث ضغطت على نفسي بالخروج معهم، ولكن لم أستطع تقبل تصرفاتهم التي كانت تؤكد أن وجودي في حياتهم لا يمثل سوى بطاقة مصرفية، حاولت أن أبدد تلك الفكرة وأتفهم نفسية كل شخص على انفراد، فلم يزدني ذلك سوى قناعة بأنني لم أكن في حياتهم سوى آلة صرافة متحركة وفي أوقات أخرى ثابتة لا تتعدى باب المنزل. في ليلة وضحاها أصبحت زوجا وأبا رجعيا، لأنني رفضت الاستسلام والانسياق للزيف الاجتماعي، وأبديت رفضي للانغماس في المنظومة الاستهلاكية البشعة التي أصبح عليها الناس دون تفكير! فحين كنت أقضي ثلاثة أرباع يومي في العمل السنوات الماضية لتوفير احتياجات الأسرة، كانت زوجتي تعيش في بحبوحة دفعتها للإنفاق بسخاء على التسوق والمجاملات وكأنني مليونير، مع أنها تعلم جيدا أنه لا دخل لنا سوى راتب الوظيفة.

حين عادت ابنتاي وأخوهما الأكبر من برنامج الابتعاث، كنت في غاية السعادة لاعتقادي أن وجودنا معا سيبهجهم، ولكن مع الأسف صدمت ببرودة مشاعرهم وتجاهلهم لي وعدم تقديرهم، فحين أذهب إلى غرفهم وأدعوهم لتناول الغداء يتهربون مني ويتحججون بارتباطهم مع الأصدقاء، وفي أيام أخرى ينظرون إليّ مستنكرين وكأنني أجرمت بحقهم، إلى أن أصبحت بناتي ووالدتهن يتحكمن في كل أمر من أمور المنزل، وكأنني لست موجودا، حتى بعد أن رفعت يدي مجبرا عن إدارة المنزل تحول وجودي بينهم لأمر مزعج، فقط لأنني فضلت قضاء وقتي معهم عن التسكع في الأسواق والمطاعم. في نهاية الأمر واجهتني زوجتي بأنها اعتادت على غيابي، وأصبحت لا تطيق وجودي في المنزل أو التدخل في حياتهم، ولم يأخذ الأمر سوى سنة حتى وقع الطلاق، الحل الذي ألحت عليه وتم بهدوء دون مشاكل، وكعادتي وفرت لهم كل ما يحتاجون إليه لأن هذا ما جبلت عليه طوال حياتي، ومع ذلك لم تهجرني بمفردها، بل هجرني معها أبنائي الخمسة، الذين فضلوا العيش بطريقة والدتهم بعد أن طالبت بنفقة شهرية مبالغ فيها لكل فرد منهم، حتى للثلاثة الذين توظفوا في قطاعات محترمة. دفعت لها ما طلبت طواعية دون مقاومة ودون محاكم أو مشاكل”. توقفت سيارته أمام المدخل فنهض محتفظا بالابتسامة نفسها دون أن ينبس ببنت شفة.. وغادر. حين يكون حجم الألم بعمق المحبة في النفس، تصبح عملية الغفران والنسيان من أصعب العمليات وأكثرها تعقيدا، خاصة إذا كانت مكانة الشخص الذي نحب لا تحتمل النسيان أو التبديل، فإذا عجز المرء عن مسامحة شريك حياته مثلا وانفصل عنه أو استبدله بآخر، لا يستطيع أن يفعل ذلك مع أبنائه أو إخوته أو والديه، ليعيش مهموما بصمت العاجز عن رفع الظلم الذي وقع عليه، يواري ظلمهم كالعار داخل طيات نفسه، يحبس دوي الخذلان بين جدران فكره، فيبحث عن خيط من نور يمرر منه حزنه، أو ينقذه من سواد هم يسكنه ويسلبه الإحساس بما حوله، فلا يشعر سوى بألم ثقيل جاثم على صدره يكتم أنفاسه، مهما أشاح عينه عن الناس خوفا من أن يبدي همه، سيشعر الناس دوما أن خوفه وراءه شيء يخزيه، ومهما يخفي من ظلمهم سيتألم، فظلم ذوي القربى على النفس أشد مضاضة من وقع الحسام المهند.

المصدر:الاقتصادية