ناصر الظاهري
ناصر الظاهري
كاتب إماراتي

أشياء لا تجعلنا في حالنا

آراء

هناك في الحياة أشياء لا تؤذي أحداً، لكنها لا تجعلنا في حالنا، ولو لم تكن في تفاصيل أيامنا لنقص منها شيء جميل غائب، مثل وردة حمراء لا تبالي إلا بتلك الرقصة الدائمة مع نسمة الريح، وهي تتمايل طرباً، تنادي الأرواح، وتسرق الضحكة من القلب، حجر صافٍ مستلق تحت الماء، ولا يرتوي، كل يومه وغايته نشيد الماء، آلة موسيقية يشجيها ما يشجيها، فتنزل دمعها لترطب النفوس، وتنزع شجنها، آه.. لو تركوا تلك الأشياء تتحدث، لقد وددت دوماً لو أني تحدثت على انفراد مع تلك الأشياء التي لا تؤذي، خاصة بعض الآلات الموسيقية، ما أجمل تلك الرغبة الطفولية الدفينة، ثمة حوار بعضه طويل، وبعضه جميل، وبعضه الآخر سابح في عمق أشياء الحياة، لا يمكن أن أرى آلة موسيقية في الشارع تناديني، ولا أتوقف محباً لا مجبراً، لا يمكنني إلا أن أتعاطف مع أولئك العازفين البائسين، ساكني أرصفة المدن، وعلى حواف طرقات جسورها، منهم بنصف موهبة، لكن الفقر يدقّ عظمه، بعضهم ضائع مع موهبته الجميلة بين الحياة والحظ الذي قد يتأخر طويلاً، وقد لا يأتي، وبعضهم الآخر، يمارس الأسفار في المدن متأبطاً موسيقاه التي تعينه على الحياة، وعدم السقوط جوعاً على الأرصفة الكثيرة، بعضهم عشاق مهزومون، والبعض تفتت أكبادهم في طَرْق مسافات النهار، وخيوط الليل، لا صديق يؤنس، ولا رفيق درب يمكنه أن يساير ظله، مثل آلته اليتيمة.

هذه بعض الآلات التي أحب صوتها، وأراها بصورة مختلفة ككائنات صوتية في الحياة لا تؤذي أحداً، كثيراً ما تستدعي دمعاً هارباً، وكثيراً ما ترقّص القلب بين الضلوع، وكثيراً ما يأتي نغمها محملاً بصور جميلة مسافرة في الرأس، وكثيراً جداً تجعل النفس تهدأ من ضجيجها، وشرورها، ناشدة الحب الذي فيها، ويكفي:

– «السكسفون»: نجوم الليل حين تنزل من عليائها الجبلي، تضمد بصوتها المسكون المتعبين من وحشة الزرقة، وتهدهد ما هو جميل في غياب الشمس، مثل مطر باغت الطرقات مثلاً أو عاشق يبحث عن وجه فلت منه في الزحام أو قلوب متصدعة بلوعة الفراق أو هناك سفر قد يحطم شيئاً أكثر من الزجاج.

– «الكمان»: بكاء أرملة صغيرة يهزّها حزنها الحقيقي، فلا تعرف، أتبكي الغائب أم تبكي نفسها.

– «العود»: همهمات شيخ صوفي، كثيراً ما يجلب الفجر معه، ودعوات الأمل الرطبة.

– «التشيللو»: آه.. كم يشبه جثة عزيز، يسحبه ذلك العازف على صدره خشية لحظة الفراق السرمدي، كم هو ثقيل نعش الصديق، يظل ينتحب مفرغاً ما في جوفه من وجع.

– «البيانو»: تلك سفينة غارقة وحدها في بحر يزاغي أمواجه، لا تريد أن تنتشلها لكي لا يضيع ذلك النغم بين فرحة الماء، وحزن اليابسة.

– «الناي»: كل شجن النفس البشرية قبل أن تغادر الغاب، وحده من يطلق للمراعي مداها، وتلك الحقول الغارقة في زي ألوانها وفضائها، وحده من يمكنه أن يقول لكائنات البراري تعالي.

– «الغيتار»: بهجة الغجر في ترحال صبحهم المبكر أو في ليلهم حين تتعب خيولهم، وتبدأ أغانيهم.

– «الطبول»: هي ركضات براري أفريقيا، وتلك الطقوس الوسطية بين الطوطم، وبين رعود وبروق ومطر، والخوف الخارج من النفس حين تستوحش غابها، ذاهبة في حربها.

– «الفلوت»: مثل فراشة ملونة هاربة من الندى إلى الندى، ووهج هباء الضوء المنثور.

– «الأكورديون»: يشبه راقصة بدينة لها فرحتها وخفتها التي تحسد عليها، ولا تبالي إلا بنفسها.

– «بان فلوت القصب»: كساحرة هاربة من الدغل، لأنها سرقت من الماء باقي خريره، ومن الريح شغبها، ودنت من الشقشقة التي تحدثها أوراق الخريف حين تستقبل مطراً في حينه.

– «كلارنيت وترومبيت»: مثل شقيقين، لا يكفان عن العراك، ينشطان معاً، يتعبان معاً، يفجران نشاطاً، ولا يتخليان عن حيوية النهار، لكن في الليل لهما حديث آخر.

المصدر: الاتحاد