علي سعد الموسى
علي سعد الموسى
كاتب عمود يومي في صحيفة الوطن السعودية

أميركا.. التي رأتني

آراء

كان الوقت يشير إلى الساعة الثالثة بعيد ظهر الجمعة وأنا أدلف بعد هذا الغياب الطويل إلى قلب جزيرة “مانهاتن”، روح نيويورك وأيقونتها المعتمدة. كنت في مكتمل التعب والإعياء بعد رحلة طويلة من “أبها – جدة – فرانكفورت وأخيراً نيويورك”، وللحق أو للصدفة كان مدخلي إلى “مانهاتن” من البوابة المناسبة أو الجسر البحري المناسب: فجأة وجدت نفسي أمام إشارة مرور طويلة جداً على الركن الخلفي لمبنى الأمم المتحدة. وفي المشهد، على الرصيف المقابل نفر من جماعة الإخوان المسلمين يتظاهرون أمام المبنى الأممي ويرفعون صور “محمد مرسي”، وتلك الأعلام والشعارات التي أدمنتها منذ عام على قناة “الجزيرة”. هربت منها في رحلة استرخاء إلى غرب الأرض فوجدتها “أول صوت” أسمعه في الأرض الجديدة والعالم الجديد. كانت إشارة المرور طويلة وحمراء مزدحمة تسمح بالمناكفة وتبادل إشارات الأصابع ما بين عابر سيارة أجرة وبين متظاهرين على الرصيف. كنت أرفع إصبعين وهم يرفعون “الأربع”. حتى الصدفة نفسها تسمح بتداخل نغمة تشابه الحروف ما بين “مرسي وسيسي” في مناخ من الحرية المكتملة. أنت في “مانهاتن”، ونحن جمعياً في نيويورك، ولا أحد منا يستطيع كتم الصوت أو تقنين حركة الأصابع أو الاعتداء على رؤية مخالفة ما بين شارع ورصيف.

وصلت فندقي في “مانهاتن الوسطى” فلم أحتمل ضياع دقائق من نهار أميركا الصيفي الطويل. قررت أن يكون استرخائي على أحد كراسي المدرج الشهير المطل على “تايمز سكوير”، أشهر ميادين الأرض وأكثر مربعاتها صخباً وتنوعاً في الأوجه والثقافات والألوان والأزياء.. وبكل شيء تحلم أن تراه من تراث الشعوب وصرعاتها المختلفة. مدرج صغير بني على شاكلة “ربع” ملعب كرة قدم أمام هذا الميدان الأسطوري، الذي يلعب فيه كل ألوان العالم ومندوبي ثقافاته وشعوبه. كنت بين كولومبي وآخر صيني. بين الأبيض من خلفي والأسود من أمامي، وكنت بالضبط في نقطة منتصفة من كراسي هذا المدرج الخرافي، الذي تجلس فيه كعصفور بين “زقزقة” كل أنواع الطيور التي جاءت من كل بقاع الأرض بألوانها وأيضاً بأصواتها المختلفة.

هنا، تذكرت أن لي في نيويورك ما يقرب من أربع ساعات لم أنطق خلالها إلا ببضع كلمات إنجليزية لموظف الجوازات في المطار. حتى صاحب التاكسي كان مصريا من النوبة، التقطني من المطار بنباهة لافتة، وحتى موظفة الاستقبال في الفندق كانت شابة لبنانية فضلت معي أن تتحدث بالعربية.

فجأة، يظهر أمام المدرج وعلى رصيف الميدان الواسع بضعة أشخاص في طابور قصير يحملون صوراً مزدوجة للوحة بصور بشار الأسد وحسن نصرالله. صخب اصطناعي أمام مدرج عولمي من شعوب وثقافات رمت هذه الصور والشعارات خلف ظهرها، وما زلنا، نحن بني يعرب، نشازاً نحتفل بقداسة الأفراد: أميركا نفسها تحتفل هذا العام بمرور قرن مكتمل ونصفه أيضاً على آخر ثورة حقوقية لحقوق الإنسان في الحياة والمساواة، بينما أنا كعربي ما زلت أشاهد، وفي قلب نيويورك صور الديكتاتورية في ساعاتي الأولى بها: من بشار الأسد إلى مرسي وحسن نصرالله.

عدت إلى فندقي مع بدء الظلام النيويوركي بعد نهار طويل. فتحت جهاز “الآيباد” باحثاً عن المصطلح العربي الشهير: “أميركا التي رأيت”، فوجدت مئات المقالات والخطب والكتب عن هذا المصطلح الشهير، الذي ابتدأه ذات يوم سيد قطب. اكتشفت أن الفكرة في العنوان الجديد تكمن في “أميركا التي… رأتني” لا التي رأيت، لأن أميركا أمة حرة مكشوفة لا تحتاج لمن يراها، لأننا في المقابل “أمة فيروسية” ما زالت في عوالم الاجتماع والعلم والسياسة تعيش أيام الجدري والطاعون وشلل العواجيز. أمة فيروسية ترفع في قلب نيويورك صور بشار ومرسي ونصرالله بينما كل العالم تجاوز هذه المرحلة.

أميركا.. التي رأتني، هي أميركا التي لا تعترف بجامعة عربية واحدة من بين الـ”500″ جامعة أولى في تصنيف جامعات الأرض. أميركا التي رأتني هي تلك التي ترى ربع عالمنا العربي مريضاً بالتهاب الكبد الوبائي والبلهارسيا لمجرد جريان نهرين في خريطته، بينما لديهم عشرة آلاف نهر ومليونا بحيرة وواحد من كل نصف مليون مصاب بهذه الأمراض المخيفة، أميركا التي رأتني هي أميركا التي لا تعترف بعربي واحد شارك في أكثر من خمسين عقاراً صيدلانياً غير وجه الحياة البشرية.

أختم: لدي عشرات الدلائل.. نحن عالة على وجه هذه الأرض وعلى ألوانها وثقافاتها المختلفة.

المصدر: الوطن أون لاين