زياد الدريس
زياد الدريس
كاتب سعودي؛ كان سفيراً لبلاده في منظمة اليونسكو

أنا أُبكّر… إذاً أنا موجود!

آراء

منذ طفولتي وأنا أحب مزاولة هذه الهواية العجيبة، هواية إيقاظ الآخرين في الصباح. في صغري كنت أمارسها مع إخواني، ولسوء الحظ أنهم كلهم أكبر مني سناً ولذا كنت أخرج أحياناً بإصابات طفيفة. الآن أمارسها مع أبنائي، ولحسن الحظ أنهم كلهم أصغر مني سناً!

لن أدّعي هوسي بالصباح الباكر جداً (صباح الفلاحين)، لكن المؤكد أني أكره سلوك الذين يستيقظون ظُهراً (صباح الفنانين)، ويغيظونني أكثر حين يقولون: صباح الخير!

رؤية الوجوه المكتنزة بالنوم في وقت متأخر من النهار تبعث على الاكتئاب والارتباك، لكأن الشمس تشرق في الصباح الباكر عبثاً!؟

في السنين الأخيرة أصبحنا نقابل هذه الوجوه الناعسة «ظهراً» بشكل مألوف ومتكرر للأسف. فالجيل الجديد من الفتيان والفتيات أصبحوا لا ينامون كي يستيقظوا نشيطين مثلما كنا نفعل، بل هم ينامون بحثاً عن جوهر النوم (تشبه الحالة الشهيرة للمقارنة بين الذي يأكل ليعيش والذي يعيش ليأكل). غدت مقادير النوم عند هذا الجيل هي: مكيف بارد جداً، بطانية دافئة للحماية من المكيف البارد، منبه إيقاظ يعطي نغمات رقيقة تساعد على الاسترخاء، ستائر صلبة توفر للغرفة ظلمة الليل المستديم هروباً من النهار المنبوذ. ولذا أصبح من الطبيعي أن ترى الشوارع في النهار (وقت العمل) مكتظة بالمسنّين العاجزين، وفي الليل (وقت الاسترخاء) تكون الشوارع مملوءة بالشباب القادرين.

كثيرةٌ هي المدونات الأدبية والطبية التي تمتدح الاستيقاظ في الصباح الباكر ومنافع هذا السلوك في الحالة البدنية والنفسية والعملية، وأن الاستيقاظ الباكر يساعد على تنفيذ المهمات وتحقيق الإنجازات بصورة أكبر بكثير منها عند أولئك الذين يبدأ صباحهم في الظهر. أما الذين يبدأ صباحهم بعد العصر فهذه كائنات ليلية لا علاقة لها بحديث النهار! وأعظم مديح للتبكير هو قوله صلى الله عليه وسلم: (بورك لأمتي في بكورها).

امتداح التبكير في أدبيات العمل والتعامل ليس مقصوراً على الاستيقاظ الصباحي فقط، بل أيضاً التبكير في الحضور للمواعيد وللمناسبات وفي أداء الواجبات وفي إعطاء الحقوق (في الحديث الشريف: أعطِ الأجير حقه قبل أن يجف عرقه).

ما زال البعض يتعمد الحضور متأخراً للمناسبات، حتى يقول للناس عند وصوله: ها أنذا جئت الآن. في مقابل هذا السلوك الامتيازي يضع بعض الوجهاء بصمته الامتيازية من خلال حضوره المنضبط والدقيق في الموعد المعلن، حتى أصبح كأنه يقول، عوضاً عن ها أنذا جئت الآن: ها أنذا جئت في الموعد كعادتي. وبين ذاك الامتياز وهذا الامتياز مسافة أخلاقية لا يغفل عنها الحضور.

عودة إلى التبكير الصباحي، إذ من الإنصاف أن نقول إن الإبداع الأدبي والفني ارتبطت إنتاجيته الفعالة بالليل المتأخر عوضاً عن الصباح الباكر، وإن المبدعين لا تنتعش شهواتهم الإنتاجية إلا إذا أرخى الليل سدوله وهجع الناس في فُرشهم.

إذا نام الفلاحون استيقظ المبدعون!

لا شك في أن الليل له «أحباره» التي يجريها في يد المبدع في لحظات السكون الخالي من البشر، حيث تزداد فرص بناء الصور الخيالية في غياب الصور الواقعية، والتأمل الليلي الصامت بعيداً من ضجيج الآمال النهارية.

لكن هل كل هؤلاء الذين يتسكعون في الشوارع العربية ليلاً هم مبدعون؟! وهل تحتاج أوطاننا كل هؤلاء المبدعين من هواة السهر؟!

المؤكد أن الأوطان والأمم العظيمة بُنيت على أيدي جموع العاملين الذين يستيقظون صباحاً، وبمساهمة نوعية من قلة ضئيلة من المبدعين الذين يسهرون ليلاً.

والواضح الآن أن لدينا وفراً فائضاً من «المبدعين»، وشحّاً قاتلاً من العاملين الذين يدركون «إنتاجياً» ماذا يعني الاستيقاظ صباحاً.

المصدر: صحيفة الحياة