سوسن الأبطح
سوسن الأبطح
كاتبة عربية

إحراق غزة «عملية إنسانية»؟

آراء

لم تكن إسرائيل يوماً إلا مدرسة في الإجرام والعنصرية. المحاولات المستميتة لبعض الصحافيين الغربيين، للدفاع عن عمليات القتل الجماعي التي تقوم بها حكومة نتنياهو في فلسطين، تثير الغثيان، وتستحق حملة عربية واسعة لفضح المجازر الإسرائيلية. التعويل ليس على الحكومات العربية التي فقد كل أمل في كثير منها، بل على «الفيسبوكيين» و«الـتويتريين» الشباب الذين صارت لهم سلطة ومساحة وكلمة يقولونها، وتشبيكات «إنترنتية» تصل إلى أقاصي الكوكب.

تتغنى إسرائيل أمام الرأي العام العالمي، لأنها تسوي عشرات المنازل بالأرض، بعد أن تبلّغ العائلات المستهدفة، وتمهلها عشر دقائق لإخلاء منازلها. الخطوة الثانية في «القصف الإنساني» الذي يتم وفق «احترام حقوق الإنسان»، هي صاروخ تحذيري ينسف سقف المنزل قبل أن تأتي الطائرات الحربية على كل ما تبقى. القتلى المائة والـ700 جريح الذين سقطوا خلال الثلاثة أيام الأولى، يوحي الصحافي ويليام سالوتان في طبعة «سلات» الفرنسية وفي مقالة عنوانها «لا تخطئوا: إسرائيل في غزة تفعل كل شيء لتفادي المدنيين» بأن هؤلاء جميعا، كأنهم اتخذوا قرارا ذاتيا بالانتحار. يصبح الكلام أقل حياء حين يقول: «بعض الأفراد يعودون إلى منازلهم فجأة، بعد إخلائها، لا يعرف لماذا؟» ربما نسي هذا الكاتب العظيم وأمثاله ممن يتصدون للدفاع عن الشر الإسرائيلي، إن النفس البشرية تتعلق بأشيائها، وترجع لتحاول التقاطها. لربما أن العائلة نسيت طفلها الوليد نائما في سريره وعادت لتسترده. ثمة مقالات تدبج اليوم، في محاولة لتبييض صفحة إسرائيل، بعد التعاطف الكبير مع غزة، إنها بمثابة قتل ثان للضحايا بعد اغتيالهم. فرفقاً بالموتى!

هناك محاولات لإضفاء مشروعية على القتل، مرة بحجة أن المقاتلين في غزة هم إرهابيون من «حماس» و«الجهاد الإسلامي» ومرة أخرى بحجة أن حماس هي من اختطفت المستوطنين الثلاثة في الضفة وقتلتهم، ومرات أخرى لأن لحماس صواريخ تهدد أمن إسرائيل، ولا بد من القضاء عليها. البعض صارت مهمته، إحصاء صواريخ حماس، وتحديد المسافات التي تصل إليها، وتبرير ضرورة الهجوم، لتأمين إسرائيل، متناسين أن الحرب الشعواء التي شنتها إسرائيل نهاية عام 2008 وأودت بحياة أكثر من 1200 فلسطيني، كان هدفها أيضا القضاء على الصواريخ، والنتيجة المزيد منها مع تطوير لمداها حتى صارت تبلغ حيفا ويافا وتل أبيب.

الكلام على أمن إسرائيل بات بحد ذاته مهزلة، بعد أن تمكنت القبة الحديدية من منع مقتل أي إسرائيلي بعد إطلاق 470 صاروخاً من غزة.

كل حجج الهجوم الإسرائيلي الدموي تبدو واهية. أين البطولة في صب النار على سجن كبير، لا تعدو مساحته 360 كلم مربع، مغلق على سكانه الفقراء، محاصر من كل اتجاه، يتنفس من خنادق تحت الأرض، ولا يمكنه العيش دون منّة إسرائيل بالغذاء والكهرباء؟ كل أمم الأرض تجد منافذ للهرب في حالات الخطر إلا مدنيي غزة، حتى البحر سدته إسرائيل في وجوههم، ولا يحق لهم التجول فيه أكثر من ستة كيلومترات بعيداً عن الشاطئ. كيف لإسرائيل أن تدعي بأنها تغير على مواقع أمنية ومراكز عسكرية، وبيوت قياديين، وهذه بطبيعة الحال أخليت، وجل الضحايا من النساء والأطفال، هذا عدا أحد المستشفيات التي لم تسلم من الغارات. وهل المقهى الذي كان رواده يتابعون مباريات كأس العالم بين هولندا والأرجنتين، في خان يونس، هم أيضا من الإرهابيين؟ والعائلات التي تباد عن بكرة أبيها هي من المجاهدين؟

مشكلة إسرائيل مع حماس هي نفسها التي واجهتها في لبنان عام 2006. نقص في المعلومات الاستخباراتية العسكرية، وعجز عن معرفة مواقع تخزين الصواريخ وأماكن إطلاقها، بعد أن دفنت في الأرض، مما يضطرها لقصف كل ما يتحرك، وصب النار على رؤوس المدنيين. ليست مصادفة أن تكتب «يديعوت أحرونوت» أن «من يتابع الحرب الحالية في غزة، لا يمكنه إلا أن يكون قلقا من الصورة التي ستكون عليها حرب لبنان».

إسرائيل مربكة، بعد أن صار جل ما تستطيعه عندما تشن حروبها، هو قتل أبرياء، وتدمير المنازل على رؤوسهم. هذه ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة. ينسى العرب الذين يحلو لهم أن يقارنوا بين الإجرام الإسرائيلي، وما ترتكبه الأنظمة العربية من مجازر بحق مواطنيها، أن الأولى عاشت على وهم تلميع صورتها الديمقراطية المخادعة أمام الغرب، وترعرعت وصمدت في الوسط العربي، بفضل ما رسم حولها من هالات القوة والتفوق والانتصارات الكاسحة على الجيوش العربية، وهي تخوض حروب التحرير، فإذا بها تخسر المزيد من الأراضي. لهذا تبدو الحملة الإعلامية المعاكسة التي تقوم بها إسرائيل دفاعاً عن صورتها التي لوثتها الدماء وأشلاء الأطفال، هي جزء أساسي من المحافظة على وجودها وإمكانية استمرارها.

إسرائيل دولة مفبركة ومزروعة في القلب العربي وفق شروط وحسابات دولية، وبسبب واقع عربي متهالك. والعرب بربيعهم وشتائهم، فإن هذا سهل المهمة لإسرائيل للانقضاض على أطفال فلسطين. إسرائيل تستطيع التدمير والقتل، لكنها لم تعد قادرة على تسجيل انتصار عسكري كاسح، ماحق، لسببين رئيسين، ضعف استخباراتي فاضح، وهزال مؤكد في القتال على الأرض، لهذا كان، ربما، لا بد للمنطقة العربية أن تتفتت وتتشظى!

المصدر: الشرق الأوسط