اعتزال الكتابة .. لماذا؟

آراء

حالةٌ “نفسيّة” بدأتْ سحاباتها تطغى على سماوات العديد من الكتّاب، مغدقةً بأمطارها القاتمة على جذوة الفكر والقلم في أعماق أولئك الفاعلين تجاه مختلف قضايا مجتمعهم، كان آخر من أطفأتْ شمعتهم المنيرة الكاتب في الشأن الاقتصادي والمالي سليمان المنديل.

لأنني مررتُ بهذه الحالة قبل عامٍ بالتمام والكمال من هذا التاريخ، أعلم جيّداً أسباب الحالة “النفسيّة” التي تصيب الكاتب في المقتل، أهمّها وأثقلها وزناً هو “الإحباط”! الإحباط التام من عدم ظهور أية نتائج لأيّ حرفٍ كُتب تحت وهْجٍ صادقٍ وطني مخلص، الإحباط من عدم تقدّم الأمور وقضايا حياة المجتمع الذي يحتضن الكاتب الذي حمل هموم ملايين البشر من حوله ولو مجرّد خطوةٍ إلى الأمام، الإحباط وما أدراك ما هو الإحباط؟ خاصةً إذا كان قد غلّف أعزّ وأغلى ما لديك؛ حبّك لكل جزءٍ من وطنك الحبيب!

كتب الكاتب سليمان في آخر مقالٍ له في صحيفة “الجزيرة” بعنوان “إلى لقاء” عبارةً تقطر حروفها غيرةً على بلادنا، قائلاً: “بسبب بطء حركة الإصلاح الاقتصادي، والإداري، فإنني بدأت أشعر بأننا نحن معشر الكتّـاب، قد أصبحنا عرضة لكي نكرر أنفسنا، فالقضايا المعيشية الملحة هي كما كانت، وأسلوب المعالجة بطيء جداً جداً”، إذا لم يكن هذا هو الإحباط، فماذا سيكون؟!

إنّها الحالة ذاتها التي أصابتني قبل عام حينما كتبتُ في صحيفة “الشرق” المقال الأخير فيها بعنوان “الصمت.. صديقٌ لا يخون أبداً”، قلتُ في ختامه: أنْ تفتح عينيك كل صباحٍ على أمرٍ ما، لتجد أنّه زاد اعوجاجاً عن صباح أمس، ويتأكّد لديك أن صباح الغد ستراه ماضيا لاعوجاجٍ أكبر، رغم أنّك ما فتئت تجاهد من أجل إصلاحه ما استطعتْ؛ فهذا مؤدّاهُ أن هذا الاعوجاج أكثر مناعةً من حجّتك وبلاغتك، ومن كل ما آتاك الله من قوةٍ وعزم، فأرحْ قلبك حينها، وأغمض عينيك، فإنَّ لله حكمةً أعلى وأوسع من أن تدركها، وأنَّ الصمتَ جديرٌ بأن تكون صديقه، ويكون هو صديقك”.

حينما يحمل المرء ـــ ليس الكاتب فقط ـــ همّ قضيةٍ معينة أو عدّة قضايا على عاتقه وفي قلبه، ثم لا يجد لمساعيه الحثيثة والدؤوبة بعد عدّة سنواتٍ أية نتيجةٍ ملموسة، بل قد تتردّى أمام عينيه يوماً بعد يوم أوضاع قضاياه، فإنّه والحال تلك سيكون أقوى ما يمتلكه عرْضةً مكشوفةً الصدْر لاختراق رصاصة الإحباط التام دون أدنى رحمة، وقد تتفاقم الجراح حتى يسقط بكامل قواه في مستنقع “اليأس”.

الكاتب الصادق لا ولن يقايض بعدم استجابة مجتمعه ومن حوله لمطالبه المشروعة بالإصلاح ومحاربة الفساد وأهله، وأهمية تحقيق النهضة والتطوّر لبلاده ومجتمعه، أؤكد أنّه لن يقايض مقابل عدم تحقق أية نتائج على مستوى تلك الطموحات السامية بأي ثمنٍ كان! فصاحب القضية الصادق؛ لن تُقرّ عينيه شهرة أو مال أو منصب ولا أيّ من حطام هذه الدنيا الفانية، بل تراه قد يُضّحي بمكاسبه لأجل إيمانه بقضيته، فقد يخسر منصبه الوظيفي وماله وحتى استقراره. مثل هذا المرء؛ تكون مصيبة “إحباطه” أشد وقعاً وأقوى تنكيلاً.

أتحدّث عن تجربتي مع الإحباط والتوقّف عن الكتابة، وكيف أنّها انتهتْ ـــ بحمد الله تعالى ـــ على خيرٍ. عقب نشر مقالي “الصمت.. صديقٌ لا يخون أبداً”، بادر من لم أُدرك في يومٍ من الأيام أنّ لديهم أي اهتمامٍ بالحرف الذي أكتبه في مقال، أو أصرّح به عبر لقاء، وأنّ الكلمة الصادقة تحظى لديهم بكامل اعتبارها وقيمتها، تعددتْ مواقعهم بين صاحب قرارٍ ومسؤولٍ ومهتم بالشأن العام ومواطن ومواطنة. كان أوّل صعقة كهربائية تلقيتها منهم: إنْ كان ما أصابك أيها الكاتب “إحباطا”، فإنّه كان بالنسبة لنا أكبر وقعاً وخسارة وألماً، لقد أصابنا فوق “الإحباط” ألماً أشدّ وأقوى وأنكأ جرحاً؛ أصابنا “الخيبة” و”اليأس” تجاه حياتنا! ثم الصعقة الكهربائية الثانية؛ أنّ فضاءنا الإعلامي سيتحوّل مرتعاً خالياً أمام المتردية والنطيحة، تغمس رؤوسنا يوماً بعد يوم في وحْل الإحباط والخيبة واليأس.

أستاذي سليمان؛ أرجو أن يصل إليك هذا المقال، وأنْ يحظى بشرف قراءتك له، ليُضاف إلى الشرف الأكبر ممثلاً في قراءته من لدن القراء الكرام. أدركتُ من تجربتي السابقة، أنّ الإنسان صاحب المبدأ والرسالة، ليس مشروطاً أنْ يجني بنفسه ثمرة قوله وعمله في هذه الدنيا، فما عند الله أبقى وأغلى وأخلد، ولهذا كان قول وعمل المؤمن لأجل وجه الله. بالنسبة للثمرة في الدنيا الزائلة، إنْ أتتْ فهو خير عظيم دون أدنى شك، وإنْ لم تأتِ فهل خسارتها أعظم من كسْب ما عند الله من ثوابٍ عظيم؟! هذه أهم الثوابت.

الثابتة الأخرى؛ حينما يمنّ الله على المرء بمحبّة الناس وثقتهم، فهذه وحدها رأس مالٍ لا ينافسه أيّ رأس مال! مؤدّى هذه الحقيقة، أنّك لم تعد ملكاً لنفسك فحسب، بل يشاركك الملايين من إخوتك وأخواتك في مجتمعك الخيّر هذه الملكيّة. يتحمّل حرفك المكتوب والمنطوق “أمانة” النقل الصادق والحقيقي لهموم وأوجاع وآلام تلك الملايين من إخوتك إلى الفضاء الإعلامي، ليشاهده ويقرأه ويسمعه صاحب القرار والمسؤول والناس كافّة، وهذا هو الأساس الذي يجب عدم نسيانه أبداً في سياق هذه القضية! لا أحد من الكتّاب والمهتمين بالشأن العام هو المعني المسؤول باتخاذ القرار، أو إصلاح الخلل، فما على الرسول إلا البلاغ، ولا يكلّف الله نفساً إلا وسْعها.

لهذا؛ خذ قسطاً من الراحة قليلاً من الوقت، ثم التقط أنفاسك سريعاً، لتعود كاتبنا الجميل الصادق كما كنت، وليعود قلمك المتوشح ـــ كما نحسبه جميعاً ـــ بالحق والإصلاح والوطنيّة الصادقة، والله ولي التوفيق.

المصدر: الاقتصادية