جمال خاشقجي
جمال خاشقجي
كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية

الأمير سلمان… والشرق الأوسط الجديد

آراء

«أخطر 48 ساعة في تاريخ مصر» كان هذا مانشيت صحيفة «الأهرام» صباح الثلثاء الماضي، مانشيت مقلق لكل مصري يصطدم به ذلك الصباح، ولكنه مقلق أيضاً للسعوديين الذين انشغلوا في اليوم نفسه وما قبله بإعادة ترتيب مؤسسة الحكم، بعد الوفاة المفاجئة لولي العهد الأمير نايف بن عبدالعزيز، ذلك أن أخطر أيام مصر هي أخطر أيام السعودية.
صُدم السعوديون بخبر وفاة الأمير نايف، خصوصاً في هذه المرحلة الحرجة، ولكن قوة مؤسسة الحكم في السعودية خففت بسرعة من أثر الصدمة. نترحم في السعودية على موتانا، ولكن لا نبقى هناك طويلاً، نمضي بسرعة، فثمة عمل كثير ينتظرنا. لعل من حكمة القدر أن يتولى منصب ولاية العهد الأمير سلمان بن عبدالعزيز، الذي له اهتمام بالسياسة الخارجية، والذي يجري قدر كبير منها حول السعودية، بل إنه متداخل معها ومؤثر فيها ومهدد لأمنها.

كثيراً ما قيل إن السياسة الخارجية السعودية بكل مؤسساتها بحاجة إلى مضاعفة الجهد، وإعادة النظر في «قواعد الاشتباك» الموروثة من حقبة «النظام العربي القديم» الذي انهار العام الماضي، ولا يزال ينهار بوتيرة تفاجئنا أحياناً. الذي نريده من الأمير سلمان هو أن يسارع بذلك، فالأحداث من حولنا لا تكاد تتوقف، يكفي مانشيت «الأهرام»: «أخطر 48 ساعة في تاريخ مصر»، فلو حصلت – لا قدّر الله – تلك المواجهة التي لا يتمناها أحد بين الدولة العميقة الممثلة في النظام «العسكري» القديم الحاكم، والقوى الصاعدة أكانوا «إخواناً مسلمين» أم ثواراً شباباً، وبغض النظر عمّن هو المخطئ فيهم، فإن حال الفوضى في مصر لا بد أن تؤثر في السعودية وأمنها الاستراتيجي، الذي تعتبر مصر جناح استقراره الأيمن. ماذا عن الجناح الأيسر؟ إنه باكستان التي حكمت محكمتها الدستورية ببطلان ولاية رئيس وزرائها، ما قد يعجّل بإجراء انتخابات باكرة فيه. المفارقة أن المعلقين هناك وصفوا قرار المحكمة بـ «انقلاب هادئ». وفي مصر وصفوا جملة القرارات التي أصدرها المجلس العسكري، ودفعت «الأهرام» إلى صياغة مانشيتها القلِق والمشار إليه بـ«انقلاب ناعم.»

كأن السعودية لا ينقصها أن تحاط بانقلابيْن، وإن كانا «ناعماً» و«هادئاً» في جناحيها الاستراتيجيين، لتتحرك تظاهرات عارمة في السودان جارتها عبر البحر الأحمر، ربما تضمها لنادي الربيع العربي، فتضاف حالتها إلى الحالة السورية المشتعلة في شكل خطر، قد تفتح بوابة من جهنم لصراع إقليمي يشمل تركيا وإيران.

حتى عند أقرب الأقربين تتفاعل أحداث مقلقة، الكويت تدخل أزمة دستورية خطرة، والبحرين التي لما تخرج من أزمتها، واليمن الذي تتكالب عليه «القاعدة»، وورثة رئيسها السابق المتشبثون بالسلطة والفقر، وما أدراك ما فقر اليمن وخطره الاستراتيجي على المملكة.

هل بقي بلد مضطرب آخر في محيط المملكة لم أذكره غير العراق ولبنان والصومال؟ كل ما سبق ملفات ضخمة لا بد أن يمضي ولي العهد السعودي الجديد ساعات طوالاً معها، إنه يعشق العمل، يبدأ يومه في السابعة صباحاً، ولكنها ملفات ثقيلة تحتاج إلى رجال ورجال.

تشرفت بلقاء الأمير سلمان مرات عدة، ولكن أهمها في نظري هي مكالمة تلقيتها منه قبل نحو عامين. كنت أنهيت للتو مقابلة مع الزميل سليمان الهتلان الذي استضافني في برنامجه الناجح على قناة «الحرة» «حديث الخليج». من ضمن ما قلت أن ليس للمملكة أن تعتذر عن شيء فعلته في أفغانستان، في معرض إجابة حول الجدل الذي لم يحسم بعد في صواب الدور السعودي في تلك البلاد، إذ دعمت بقوة وشراسة المجاهدين الأفغان ضد الدولة العظمى آنذاك (الاتحاد السوفياتي)، قلت ليلتها: «لقد فعلت المملكة الشيء الصحيح ديناً وأخلاقاً وخدمة لمصالحها الاستراتيجية أيضاً». اتصل بي الأمير سلمان، وأتشرف بأن أذكر أنه أثنى على ما قلت، وأضاف: «هؤلاء الناقدون للدور السعودي، ومنهم سعوديون عليهم أن يحضروا خريطة للمنطقة، كما كانت في كانون الأول (ديسمبر) 1979، عندما غزا السوفيات تلك البلاد المنسية سيرون المملكة وقد أحاط بها أعداء أو قوى غير صديقة من كل أطرافها، الروس يحلمون منذ أيام القياصرة بالوصول إلى المياه الدافئة، وها هم يغزون أفغانستان، ولو استقر لهم الوضع لأكملوا على حليفتنا باكستان أو على الأقل اقتطعوا منها بلوشستان كي يصلوا إلى بحر العرب، عراق صدام حسين لم يكن صديقاً للمملكة يومها أيضاً، ولم نثق كثيراً بسورية حافظ الأسد، ويميل كلاهما نحو اليسار، أما الجنوب فأنكى وأمر، دولة ماركسية خالصة في قلب جزيرة العرب، وعلى طول نحو ألف كيلومتر مع المملكة، وفي إثيوبيا انقض منغستو ومن معه من شيوعيين على الحكم، والصومال يتهاوى. لو أدركوا ذلك لفهموا لماذا تدخلنا بذلك الشكل الحاسم في أفغانستان»، ثم أضاف في ما أذكر: «من دون أن ينقص ذلك من واجبنا الإسلامي والأخلاقي في نصرة إخواننا المسلمين هناك.»

يومها كان الأمير سلمان رئيساً للجنة الشعبية لدعم المجاهدين واللاجئين الأفغان. لم تكن «عملية إغاثة» فقط تلك التي أشرف عليها، وإنما كانت حرباً قادها مع آخرين لحماية المملكة وأمنها واستقرارها، أما «القاعدة» وما صحبها من تطرف فلم يكن من نتاج تلك الحرب، وإنما نتاج أسباب عدة معقدة ومرحلة من الفشل والاستبداد هي التي انتهت في ربيع 2011.

اليوم على الذين يريدون من المملكة أن تنكفئ على شأنها الداخلي، ليأتوا بخريطة للشرق الأوسط وقلم أحمر كبير، وليعلّموا به على المناطق الساخنة حول بلدهم المستقر.. صورة مفزعة، أليس كذلك؟ هذا ما نريده من الأمير سلمان، دفعة هائلة من الطاقة والتجديد والحيوية والاهتمام بسياسة المملكة الخارجية بكل مؤسساتها.

نشرت هذه المادة في جريدة “الحياة” بتاريخ 23 يونيو 2012