فهد الدغيثر
فهد الدغيثر
كاتب سعودي

الإنسان هنا.. إلى أين؟

آراء

وأقصد بذلك الإنسان العربي المسلم ولا أعمم بطبيعة الحال.

أكتب هذا الموضوع بحرقة وحيرة وأنا متسمر أمام شاشات التلفزة التي تنقل مواكب رهيبة لعشرات العربات السوداء المصنعة خصيصاً لنقل الجنائز وهي تجوب طرقات هولندا الخضراء، حاملة جثامين الهولنديين من ضحايا الطائرة الماليزية المنكوبة فوق شرق أوكرانيا.

على جنبات هذه الطرق اصطف آلاف السكان يحملون الورود وينثرونها على العربات التي تسير ببطء شديد. عدد الركاب الهولنديين في تلك الطائرة شكل ثلثي إجمالي عدد الركاب البالغ عددهم ٢٨٩ مسافراً. في هذا السياق نستذكر أيضاً مراسيم التأبين في نيويورك ولندن ومدريد وغيرها بعد هجمات القاعدة قبل عقد من الزمان، وقد تحولت إلى حدث سنوي مهم في تلك المدن. شعوري بالحرقة أتى بسبب اهتمام هذه الأقوام بالأنفس وتقديسهم للأرواح المفقودة خلافاً لما نمارسه في عالمنا وليت الأمر يتوقف على ذلك.

سبق هذا المشهد في هولندا بطبيعة الحال وما زال مستمراً تغطية سقوط تلك الطائرة في لحظاتها الأولى والتغطية المستمرة لهجوم إسرائيل الوحشي على غزة، والذي تسبب حتى كتابة هذه الأسطر بمقتل أكثر من 800 فلسطيني وجرح وإعاقة الآلاف. وهناك بالطبع ما أصبح روتيناً مؤلماً في «عالمنا»، وهو التقارير الإعلامية عن سقوط ضحايا النظام السوري المجرم وضحايا الإرهاب في العراق واليمن واعتداءات القاعدة على حدود المملكة وعمليات التفجير والاغتيالات في مصر، وما يحدث في ليبيا وفي أفغانستان ونيجيريا والصومال ولا أقول إيران لأنها وبقدرة قادر و«عيني عليهم باردة» نقية صافية خالية من أي اعتداء.

العامل المشترك بين جميع هذه الأحداث هنا وهناك موت الأبرياء بطرق جنونية لا رحمة فيها. العامل المختلف بين هذا وذاك قيمة هذا الإنسان «الضحية». فبينما في هولندا وغداً في أستراليا وماليزيا وبريطانيا وأمريكا تقام مراسم التشييع وتحاط بالهيبة والاحترام وتعلوا أصوات المطالبين بالتحقيق بمقتضى القوانين الدولية ويتم تعديل أنظمة «أياتا» للطيران لتواكب هذه التطورات الخطرة، يعلوا التكبير في مناطقنا وتعم مظاهر الفرح مع سقوط هذه الأنفس، وكأن الموت هو الهدف والحياة هي العبث. نتصرف هكذا بكل «ثقة» ونحن المسلمون، وكأننا لم نقرأ كتاب الله الذي حث على إعمار الأرض وحفظ الأرواح وحرم قتلها إلا بشروط صارمة وقاطعة وأوضح عقوبة من يفعل ذلك. نتصرف وكأننا لم نقرأ أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي جاء أحدها بهذا النص الصريح الذي لا لبس حوله. من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قلت: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول، قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه». فإضافة إلى ضحايا الهجوم الإسرائيلي ومئات القتلى، أليس هذا بالضبط ما آلت إليه سلوكيات ومخططات الجماعات الإرهابية في عالمنا الإسلامي؟ مسلمون يقتلون مسلمين!

لكن كيف ولماذا هانت لدينا قيمة الحياة في منطقتنا وعظمت قيمة الإنسان عند الآخرين؟ وأنا أتحدث تحديداً عن هذا العصر. هذا ما يبعث على الحيرة والتوتر والخوف بطبيعة الحال.

هل من يكبّر ويصفق لسفك الدماء ويعتبر ذلك انتصاراً كان قد تملكه شعور اليأس من الحياة، بينما في الغرب مثلاً لم يعد يوجد هذا الشعور؟ لا أرى حقيقة أسباباً غير ذلك. ففشل الأنظمة «الثورية» على مدى عشرات العقود الماضية في بناء الإنسان وإعمار الأرض والتنافس الخلاق في ما ينفع ربما هو الدافع الأهم في وجود هذه الظاهرة العجيبة المحبطة لدى بعض الشعوب في عالمنا العربي الإسلامي. المزعج أيضاً أن الأمر لا يقتصر على أولئك الفاعلين فالمطبلون لهم في منطقتنا كثر وهؤلاء بالطبع لا يمكن حصرهم ضمن اليائسين. شعار الجميع يرتكز على مقولة باهتة أصمّت آذاننا منذ الستينات وهي أن للحرية ثمن. لكنهم وهذا مصدر التندر والغرابة، لا يدفعون من هذا الثمن شيئاً بأنفسهم. الثمن دائماً يدفعه الضعفاء الأبرياء. ومع ذلك وبلا حياء يستمر نعيقهم ضد أي أصوات عاقلة ضد هذه الوحشية بأن هذا السفك «الغبي» للدماء هو الذي يجب أن «ندفعه» سعياً إلى تلك «الحرية» و«الكرامة». لكن من «هم» هؤلاء ومن «أنتم» ومن هو حكم المباراة ومن الذي يخطط لها؟ المشهد الأكيد الذي أثبته التاريخ في منطقتنا أنه حتى لو أتى علاء الدين بمصباحه السحري وطلب من قيادة «حماس» على سبيل المثال، أو من «أمراء» القاعدة أن يضحوا بحياتهم هم شخصياً كأفراد في مقابل حصول البقية على تلك الكرامة والحرية التي يتذرعون بفقدانها لولوا هاربين. الحياة لدى هذه «القيادات» غالية الثمن ولا يخفى ذلك على طالب المدرسة الابتدائية. الجميع يشاهد هؤلاء «القادة» في أماكن إقامتهم خارج مناطق الصراع وهم يمارسون الحياة الطبيعية والبذخ ويرتدون الألبسة الأوروبية الفاخرة ويبتسمون كثيراً أمام الكاميرات. بل إن أحدهم وهو مقيم حالياً في الدوحة، التقطته الكاميرا وهو يتسلى بلعبة تنس الطاولة في «بيته» الفاخر ويتنقل بالطائرات القطرية الخاصة. مثل هذا «القائد» كثر وهؤلاء هم من يحمل قرارات الهدنة والاستجابة للمبادرات عند طرحها. هذا القائد كان بمقدوره المحافظة على أكثر من 500 فلسطيني تمت إبادتهم في غزة منذ رفضه لمبادرة مصر قبل 10 أيام. يرفض المبادرة وهو يجلس على طاولات العشاء الفاخرة في الخليج كيف لا يفعل وهو يدرك أن القطيع يستمر في التصفيق والإشادة بأرواح أولئك الأطفال والشيوخ والنساء.

لنعود إلى المسببات نفسها التي وضعتها كفرضية لوجود هذه الحال، وهي الفشل واليأس، ونتخيل لو أن كوريا الجنوبية أو اليابان أو ماليزيا والبرازيل والتشيخ وغيرها من الأمثلة، لو أنهم اختاروا العنف والشعارات ولغة الثأر خصوصاً وقد حدث لهم ما حدث من المصائب بعضها فقر مدقع بسبب الفساد المالي والإداري كما في ماليزيا وإندونيسيا والبرازيل في العقود القريبة الماضية أو تلك الهزائم وويلات الحرب كما حدث في اليابان وكوريا الجنوبية. تخيلوا لو لم يتجهوا أولاً إلى الابتعاث والعلم والمنافسة بإصرار وتحزموا بدلاً من ذلك بالقنابل الناسفة؟ أين ستكون مكانتهم اليوم وكم عدد قتلاهم وكوارثهم؟ هل كنا سنشاهد هذه العلامات التجارية العملاقة كـ«سوني» و«هيونداي» و«سامسونغ» و«تويوتا»؟

لذا فاللجوء إلى ذريعة «الحرية» و«الكرامة» والسعي إلى تحقيقها ليس بواسطة العلم والتقدم والاقتناع بضرورة التدرج في هذا المسعى بل من وراء الشعارات الثورية الفارغة من القوة أو من أي محتوى ذي قيمة وتعريض هذه الأعداد الكبيرة من المدنيين للقتل وما يتبعه من مآسٍ وتداعيات مؤلمة ومحبطة، إنما هي كالانتحار الذي يقدم عليه الجاهل لا إرادياً.

إن من يتشبث بها إلى اليوم يشبه المريض الذي أعياه المرض في كل أجزاء جسمه بسبب الجوع وسوء التغذية، وبدلاً من التشخيص والسعي نحو العلاج والغذاء المناسب، بدأ يعالج بالكي إلى الحد الذي امتلأ جسده بالبقع المحترقة ثم تحولت فيما بعد إلى أورام سرطانية.

نعم فالمرض لدينا لم يتوقف عند الشعور باليأس والتعايش مع الواقع على سوأته ومحاولة النهوض من جديد، بل زاد تعقيداً عندما أصبح التمسح بالشعارات والاحتفال بعدد القتلى هو الإنجاز. معنى ذلك أن الفراغ امتلأ وهذه هي الكارثة. حتى بعض مثقفينا ونخبنا أصابتهم مع الأسف هذه العدوى وتوشحت خطاباتهم ببيارق هذا المرض العضال.

أعرف أن المقارنة لا تتوقف هنا. لو نلاحظ بتأمل سنكتشف العديد من السلوكيات التي نظن أنها من أعز ما نملك عندما نطبقها بدقة، وأقصد مبادئ الإسلام وقيمه وشرائعه بين الناس، قد تم نسيانها. نعم وضعنا تلك القيم والمبادئ والسلوكيات الحميدة على الأرفف ومارسنا كل ما هو مضاد لها. فقدنا الحرص على حفظ المواعيد والأمانات وأهملنا حقوق الأقليات والضعفاء وسمحنا للفساد أن يتفشى وللجريمة أن تنمو وللفوضى أن تعم في الأماكن العامة.

تنازلنا عن تطوير التعليم ومقارعة العالم في الابتكارات واستسلمنا للمؤدلجين وأساطيرهم الباهتة. فشلنا في ترسيخ هذه القيم وغيرها حتى قبل هذه الحروب على رغم أن جميع الكتب السماوية تحدثت عنها. كيف انسلخنا من هذه القيم والمبادئ العظيمة وتمسك بها الغرب هذا العصر إلى حد كبير؟ إن كانت النتائج تقاس بالفعل وليس بالضجيج فوالله أن صفاتنا وسلوكياتنا ومشاعرنا وكذبنا ونفاقنا وما آلت إليه الحال من تراقصنا على جثث المسلمين الأبرياء أبعد ما تكون عن الإسلام مهما تعددت المنابر وعلت أصوات الخطباء واستخدمت بسوء نية مفردة «الشهداء».

إذاً لا غرابة أن نحتفل بتناقل صور القتلى ونتغنى عليها بأبشع صورة عرفتها الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية. متى نستيقظ على هذه الفاجعة ونكتشف الكذبة الكبرى التي حشرتنا طويلاً في هذا النفق المظلم؟ الله المستعان.

http://alhayat.com/Opinion/Fahad-Al-Dgheter/3811567
المصدر: الحياة