عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
كنتُ منهمكاً بكتابة دراسة عن «القرآن والتأويلية الأشعرية» بحسب الباقلاّني، عندما أرسل إلي أحد الأصدقاء كتاباً لرجل ذي اسم مستعار في الغالب هو «عباس عبد النور» وعنوانه: «محنتي مع القرآن ومع الله في القرآن». إن الطريف كان بالنسبة لي أن الدعاوى ضد القرآن التي يرد عليها الباقلاّني في كتابه: «الانتصار للقرآن» قبل أكثر من ألف عام، هي نفسها التي يذكرها ويؤكّدها المسمى «عبد النور» مثل الغموض والتكرار والابتسار وغير المفهوم والقاسي ومتناقض التفسيرات. ويبدو بالفعل أن الرجل (يقول إنه مصري) كان مسلماً لأنه يعرف كثيراً عن الإسلام والقرآن. إنما هناك احتمال أن يكون كاهناً مسيحياً ذا ثقافة استشراقية، مثل اللبنانيين المسيحيين الذين انصرفوا لكتابة نقائض ضد الإسلام خلال الحرب الأهلية! أما الأمر الطريف الآخر، فهو أن كل النقائض التي يذكرها الكاهن «عبد النور» على القرآن، هي ذاتُها ما كان يستخدمه المسلمون قديماً وحديثاً في الردود على اليهود والمسيحيين في العهدين القديم والجديد!
وما أردتُ من وراء معالجة هذا الموضوع أو التعرض له، إحياء الاهتمام لدى القراء بالدفاع عن الإسلام. فهذا الموضوع ليس مكانه الصحف السيارة ولا التلفزيون والقنوات الفضائية، بل أردْت عرض المحنة الهائلة التي نعاني منها نحن العرب والمسلمين في السنوات والعقود الأخيرة. فهناك أُصوليات عنيفة صاعدة في قلب ديننا ومن حوله، وهي تضرب وتخرّب في ديار المسلمين ومجتمعاتهم بالدرجة الأولى، لكنها وهي تفعل ذلك تُسيءُ للآخرين أيضاً. وهناك موجات كراهية وعنف ضد العرب والإسلام في كل مكان، وهي تتخذ من الأعمال العنيفة والإعلانات العنيفة للأصوليات (السنية) ذريعة في ذلك!
بدأت الأعمال العنيفة للأصوليات السنية بهجمات «القاعدة» في أفريقيا ثم الولايات المتحدة ثم أوروبا، ثم جميع أنحاء العالم وبخاصة الدول العربية والإسلامية. وفي العقد الأخير بالذات تركزت في الدول العربية. وقد رد الأميركيون والآخرون (ومنهم العرب) عليها بشن الحرب العالمية على الإرهاب، واحتلال أفغانستان والعراق، وتغييرات راديكالية في السياسات أدت إلى تصاعد النفوذ الإيراني في المنطقة على أربعة مستويات: الاستيلاء على العراق وسوريا ولبنان وغزة، وإحداث مشكلات سياسية وأمنية خطيرة في اليمن والبحرين، والتساوُم مع الولايات المتحدة على شتى المستويات بدءاً بالنووي وانتهاءً بمناطق النفوذ. ومن ضمن ذلك التساوم، التحالُفُ مع الروس والتقارب مع الصينيين والهنود وإحداث اختراقات في الصف العربي. والمستوى الثالث: نشر الحرب الشيعية السنية ليس عبر الاستيلاء على بلدان سنية وحسْب؛ بل والعمل على تبشيرية شيعية تُحاصر المجتمعات والنواحي السنية الفقيرة في سوريا ومصر والمغرب والجزائر ونيجيريا ولبنان. ولدي في كل بلد وقائع دالّة على ذلك. والمستوى الرابع: إقناع العالم (وبعض العرب) بقدرة إيران على مكافحة التطرف والإرهاب (السني) بعساكرها وتنظيماتها في البلدان العربية التي تسيطر فيها، وفي بلدان أُخرى لها فيها نفوذ أمني مثل أفغانستان ونيجيريا والكويت واليمن، وبعض المغتَرَبات وبلدان الجاليات العربية والإسلامية. فقد أكلت إيران رأس الإسلام الشيعي العربي في كل مكان. وهي تستخدم الأقليات الشيعية أو التنظيمات المسلحة وغير المسلحة في صفوفهم بشتى السُبُل والوسائل. وهناك هدف مباشر وعنيف لها يتمثل في نشر الاضطراب في الخليج العربي لزيادة الضعف والاستنزاف على العرب في سنوات المحنة هذه.
إن الخطر الإيراني مباشر وحاسم وعلى الدين والدولة عند العرب، وبخاصة في مجالين: مجال مناطق النفوذ العسكرية والأمنية (العراق وسوريا ولبنان واليمن)، ومجال الحرب الشيعية السنية. وخطر المجال الأول واضح، أما المجال الثاني فخطره استراتيجي لأنه يمكن أن يستمر لأجيال وأجيال. إنما رغم ذلك فإنّ الخطر الاستراتيجي (الديني والثقافي) الآتي من تغير رؤية الإسلام في العالم عظيم وهائل، وقد يكون أخطر. وحجج الكُتاب الاستراتيجيين في التعظيم من شأن هذا الخطر هي التالية:
أولًا: ضخامة حجم الإسلام السني. إذ يبلغ عدد المسلمين السنة في العالم أكثر من مليار وثلاثمائة مليون. ومجتمعاتهم حتى في المغتربات فيها سخط وتذمر كثير. ومن السهل تجنيد الشبان لدعاوى وحركات الإسلاميين المتطرفين.
ثانياً: معظم المسلمين السنة ضد العنف الأصولي، لكنْ ليس عندهم نهوض ديني وثقافي لمكافحة انتشار الظاهرة في مجتمعاتهم. وعدم النهوض هذا له سببان: التحويلات المفهومية التي جرت في الدين الإسلامي خلال العقود الماضية، والتي أدّت إلى تصاعد الاعتقاد بأن دينهم يفرض عليهم إنشاء دول «إسلامية» بمعنى أن الدولة ينبغي أن تكون دينية وتطبّق الشريعة. وقد تسلّم الزمام في أوساط المتدينين أحد طرفين: الأحزاب الدينية مثل الجماعة الإسلامية، والإخوان المسلمين أو الحركات المتطرفة وهي أشكال وصيغ متعددة لـ«القاعدة»(السلفية الجهادية) آخرها وأبرزها الآن «داعش» وأهوالها.
ثالثاً: ضعف المؤسسات الدينية السنية، وضعف جاذبيتها للشبان. فقد كانت المؤسسات وما تزال تمارس خمس مهام في الإسلام السني هي: التعليم الديني، والفتوى، وقيادة العبادات، والإرشاد العام، والإشراف على قضاء الأحوال الشخصية والأوقاف في بعض البلدان. وهي مقصرة في كل هذه المهام لمحاصرتها من جهات عدة: الأنظمة والدول التي استتبعتها أو حاولت إلغاءها، وجاذبيات الفتاوى المتطرفة أو الغرائبية على الفضائيات، كبديل للفتاوى التي تؤديها تلك المؤسسات للدول، وظهور مدارس حزبية للتعليم الديني، وظهور جماعات إرشادية وتبليغية تملك جاذبية كبرى مقارنة بموظفي الجهاز الديني الرسمي، وتراجُع روح التفاني والرسالة لدى المؤسسات.
رابعاً: الضغوط التي يتعرض لها الجمهور منذ آماد. وفي العقود الأخيرة زادت الضغوط التي يتعرض لها بالدواخل العربية والإسلامية. وذلك من حكومات الطغيان والدول الفاشلة. والمعروف أن الجمهور خرج مسالماً في النهاية ليلقي عن أكتافه أعباء الظلم والاضطهاد. لكنه فوجئ باستخدام العنف المفرط من الأنظمة ومن إيران وحلفائها. وفي مواجهة هذا التطرف الذي اتخذ أحياناً سمة مذهبية، صعدت الموجة الثالثة (الأولى بن لادن، والثانية الزرقاوي) في صورة «داعش» و«أنصار الشريعة» و«أكناف بيت المقدس».. وفي مواجهتها «عصائب أهل الحق»، وتنظيم «أبي الفضل العباس»، و«أحباب زينب»، و«كتائب الدفاع الوطني» (= الشبيحة) والحوثيين، و«حزب الله» العراقي.. إلخ. وينبِّه الباحثون الغربيون إلى أن الأُصوليتين السنية والشيعية قديمتان. لكنهما سارتا بالتوازي، وقسّمتا مناطق الفعالية، وما اصطدمتا من قبل. إلى أن تحركت التنظيمات الإيرانية مباشرة ضد مناطق وأقاليم ودول سنية للهدم والتخريب، فهبّت في وجهها أصوليات سنية انتقامية بدأت تقوى وتؤثر بعد سنوات من الخمود والضياع بسبب الاختراقات من أميركا وإيران.
وخُلاصة الأمر أن الوضع سيئ جداً على العرب والسنة خصوصاً. فخلال خمس سنوات أو أقل سقط أكثر من نصف مليون قتيل عربي، ثلثهم من النساء والأطفال وكبار السن. وتهجَّر أكثر من اثني عشر مليون عربي، بينهم مليون ونصف من العراق اتجهوا للمناطق الكردية، وبينهم ثلاثون ألف مسيحي من مدينة الموصل فقط. يضاف لذلك هذا الوجه الذي اسود للإسلام نتيجة جرائم وتفلتات الداعشيات والإخوانيات.
إن ما ذكرناه ليس شكوى وحسب، بل شكوى وتشخيص. وما كلُّ ما يقوله الغربيون صحيحاً وهم يتجاهلون أدوارهم في تفجر الإسلام. لكن الظاهرة ثابتةٌ وبارزةٌ ولا يمكن تجاهُلُها. والأمر يحتاج إلى الحساب والتقدير، لكنه يحتاج أيضاً للتدبير: «والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون».
المصدر: الاتحاد
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=80489