الركائز الثلاث لإصلاح تشوهات الاقتصاد

آراء

استكمالاً لمناقشة أوضاع سوق العمل السعودية، وما يُضخُّ في مختلف جنباتها من قراراتٍ وبرامج وإجراءات من قبل وزارة العمل، مع الإشارة هنا إلى أنَّ ما قامت به وزارة العمل منذ مطلع 2011 وحتى تاريخه، يُعد الحزمة الأكبر من القرارات والإجراءات في تاريخ الأجهزة الحكومية منذ تأسيس البلاد! ما يؤكدُ حرصها على معالجة اختلالات سوق العمل، وسعيها الحثيث لأجل رفع مساهمة العمالة الوطنية في السوق، غير أنّه فات على وزارة العمل أنَّ ما تعانيه السوق من تشوهاتٍ بالغة التعقيد، كان مصدرها الرئيس تشوهاتٌ أكبر بكثيرٍ من قدرتها وحدود صلاحياتها، وهو ما أحاولُ إيصاله إلى دوائر القرار فيها منذ بدأتْ بإعلان وتنفيذ برامجها المتتالية.

كما هو معلومٌ ومثبتٌ في مجال السياسات الاقتصادية؛ أنَّ محاولة اتخاذ حلولٍ ”جزئية” و”منفردة” تجاه أزماتٍ وتحدياتٍ منشأها الرئيس أزماتٍ وتحدياتٍ أكبر وأعمق على مستوى الاقتصاد الكلي، ستأتي نتيجتها الحتمية وخيمةً إلى حدودٍ تتجاوز بمساوئها مساوئ الواقع الراهن الذي يحاول المخطط الاقتصادي معالجته! هذه حالة.

الحالة الأكثر خطراً من السابقة؛ أنْ تهرول أكثر من جهةٍ حكومية في اتجاه الحلول ”الجزئية” و”المنفردة” وفق النسق المشار إليه أعلاه! بمعنى أنَّ يتولّى كل جهازٍ حكومي تنفيذ مهامه ومسؤولياته وتحدياته، لكن بجهودٍ منفصلة أو شبه منفصلة عن ما يقوم به غيره من الأجهزة الأخرى. هنا؛ هيهات أنْ تتمكّن من رصْد أو تتبع النتائج الوخيمة لهذا العبث والفوضى على المستويات كافّة، بدءاً من رسْم السياسات مروراً بتنفيذها، نهايةً بتقييمها إنْ كان هناك تقييم!

إننا والحال تلك، سنصلُ إلى ما يُسمّى بـ ”الحالة الفراغية” كنتيجةٍ تالية للحالة الأخطر أعلاه، التي تعني في حقيقتها استمرار الدوران في حلقاتٍ مفرغة لآجالٍ طويلة الأمد، ينحصرُ المخرج الوحيد للخلاص من دوّامتها في الإخماد التام لشرارتها الأولى (محاولة اتخاذ حلولٍ ”جزئية” و”منفردة” تجاه أزماتٍ وتحدياتٍ منشأها الرئيس أزماتٍ وتحدياتٍ أكبر وأعمق على مستوى الاقتصاد الكلي). ومن ثم سيتوقف ما يليها من دواماتٍ حائرة، وجهودٍ ضائعة! ثم ماذا؟!

لن أُطيل؛ فالتحديات الجسيمة التي يواجهها اقتصادنا الوطني ومن ضمنها البطالة، لو كان حلّ طلاسمها مقال أو عدّة مقالات، لما أخذتْ هذا القدر الكبير من الاهتمام، ولا وصلتْ إلى هذا المستوى من الاختلاف والنقاش المحتدم، بل لم تكن لتستدعِ مبادرة الدولة ـــ أيدها الله ـــ بتسخير مئات المليارات من الريالات، وتخصيص جُل جهودها وإمكاناتها لأجل معالجة ومواجهة تلك التحديات، والحديث هنا لا يقفُ عند قضية البطالة فقط، بل يمتد إلى بقية التحديات دون استثناء؛ كأزمة الإسكان، وغلاء الأسعار، والفقر، وتفاقم أشكال الفساد، والاحتكار، والغش التجاري… إلخ. أؤكد أمام هذه الحالات المعقدة، أنَّ ما يُسطّر سواءً هنا أو في أي مقامٍ آخر، لا يتعدّى كونه مساهمةً اجتهادية من الكاتب، تحاول لفت انتباه الأجهزة المعنيّة إلى ما قد يغيب أو غاب عنها، وأنّها مجرّد آراء وأفكار يؤمل إضافتها إلى الخيارات المتاحة أمام تلك الأجهزة، وأنّها تلتقي تماماً مع أهداف التطوير، وغايات الإصلاح، التي تسعى خلف تحقيقها جميع تلك الأجهزة.

أعودُ إلى وزارة العمل، التي كانتْ مفتاح ما تقدّم أعلاه، إضافةً إلى آخر مقالين سبقا هذا المقال، فأقول إنّ من مصلحة اقتصادنا الوطني، أنْ تعيد التفكير في جميع ما اتخذته من إجراءات وقرارات، وتبدأ النظرِ إلى واقع سوق العمل المحلية وتحدياتها من منظور أوسع، ولا أرى في هذا المقام أجدرُ من نافذة ”المجلس الاقتصادي الأعلى” لتحقيق تلك النظرة الشاملة، لتستفيد من وجود بقية الأجهزة الاقتصادية المعنيّة تحت مظلّته، وتبتعد بذلك وزارة العمل وغيرها من الوزارات والهيئات والمؤسسات الحكومية عن فخِّ الحلول ”الجزئية” و”المنفردة”.

ينطلق العمل المقترح تحت مظلة ”المجلس الاقتصادي الأعلى” من ثلاثة ركائز رئيسة، هي كالتالي:

الركيزة الأولى: رسْم رؤية شاملة لمستقبل الاقتصاد الوطني ”فريق استشاري مؤهل مستقل”.

الركيزة الثانية: رسْم السياسات الاقتصادية، التي تلتزم تماماً بالمحاور التفصيلية للرؤية الشاملة أعلاه، وتنفيذها وفق برامج أداء سنوية ”الأجهزة الحكومية المعنيّة”.

الركيزة الثالثة: متابعة الأداء والتنفيذ، والرقابة، والمحاسبة، وإعداد التقارير الدورية ”نصف سنوية، سنوية”، ورفعها من قبل ”فريق رقابي مستقل” إلى مقام رئيس المجلس الاقتصادي الأعلى.

إنّي لأرجو أنْ يجد هذا المقترح استجابةً قريبة، وأنْ يُترجم هو وغيره من طروحات بقية المهتمّين والمختصّين المخلصين إلى واقعٍ ملموس. إنَّ اجتماع الأفكار وتنوّعها في مواجهة أيّ من تلك التحديات الجسيمة، أصلحُ وأفضل من مواجهة مجموع تلك التحديات بأفكارٍ ومقترحاتٍ منفصلة! والله ولي التوفيق.

المصدر: الإقتصادية