جاسر عبدالعزيز الجاسر
جاسر عبدالعزيز الجاسر
مدير تحرير صحيفة الجزيرة

السعودية تربّي عساكرها على الابتسام

آراء

يختلف العسكر في السعودية عن نظرائهم في كل مكان، ليس لأنهم يربون لحاهم كما يشاؤون أو يتركون كل عمل لأداء الصلاة في وقتها، بل لأنهم يكسرون الصورة المتجهمة الدموية للعسكر، حتى ليبدو أن لبسهم الجاف لا يبث فيهم روح العنف والسطوة التي يمثلها العسكر في كل مكان. أول مشهد أدهشني أيام شبابي الأولى حين كنت أجتهد في تغطية «جنادرية» التسعينات، أنني شاهدت نقيباً في الحرس الوطني مرافقاً للطيب صالح. وقتها انتشيت بقيمة الأدب لأنني كنت أتسلق شجرته، وفرحت أن الأدب قد يعلو على بسطار العسكر وضربته القاسية، كما استشعرت أن العسكر ليسوا مجرمين وقتلة، بل هم موظفون منضبطون وربما مثقفون. ولعل النقيب ذاك كان سعيداً أنه برفقة قامة مثل الطيب صالح الشهير وقتها أكثر من صدام حسين رفيق المهنة.

خلال أعوام طويلة غطيت الحج صحافياً وتلفزيونياً و «لقافة» أحياناً تحت تأثير الشيخ صالح العساف النشط في خدمة الحجيج عبر كل المستويات. في كل مرة أشهد من العسكر أداء لا يتفق مع التاريخ القاتم لهم من حيث التعامل الإنساني وعنايتهم بالحجاج. في بعض المراكز كان العسكري يتساهل مع الحاج المخالف خشية حرمانه الأجر. أما في المشاعر فهو مجرد أجير لدى الحاج ينتظر الأجر الرباني وليس الراتب الدنيوي.

بعد أحداث أيار (مايو) 2003 وما رافقها من تفجيرات نزلت فرق من الجيش إلى الشارع وأقامت نقاط تفتيش وحين مررت بإحداها سألت الضابط الواقف: هل الوضع خطر حتى يستدعي نزولكم؟ وهل الرعب قادم إلينا؟ ابتسم وقال: نحن عابرون، نساعد في ضبط الأمن ومساعدة رجاله ليصطادوا الإرهابيين ونضيق عليهم الخنادق. في تلك الفترة كان سعد الفقيه يحرض على التظاهرات والتجمع في مسجد الراجحي السابق في الرياض، وأذكر أنني ذهبت لصلاة العصر في ذلك المسجد وكانت الدوريات الأمنية تحيطه، وعندما مررت من نقطة تجتمع فيها حافلات مكافحة الشغب سألت ضابطاً متقلداً هراوته: كيف أضمن خروجي سالماً، وأنا لم آت إلى الصلاة مع رغبة في رصد نتائج التظاهرة؟ قال: إن كنت مصلياً فستخرج مثل ما دخلت، وإن كانت غايتك غير ذلك وأحدثت شغباً ستبدأ مهمتنا. بعد الصلاة تجمعنا في الساحة مختلطين مع عسكر مدججين بأجهزة الاتصالات، لكن لم تحدث تظاهرات ولم تحدث أيضاً اعتقالات.

في حج هذا العام احتشدت الصحف بصور نبيلة للعسكر وهم يساندون عاجزاً في الجمرات أو يدفعون مقعداً أو يسقون عطشان أو يبردون من أرهقه الحر، وهي مشاهد ألفتها وعايشتها لأعوام، سواء حضرت الكاميرا أم غابت.

أبرز صورة أعجبتني نشرتها صحيفة «مكة» لطفلة ترمي الجمرات من على ظهر أبيها بينما تسندها يد عسكري، في الوقت الذي يرفع آخر قبعة السلطة لتحمي رأسهما من الجمرات المتطايرة.

هؤلاء العسكر لم يطلب منهم أحد هذا الترويج الإعلامي، إنما كانت مهمتهم ضبط الحركة ومنع التدافع، لكن مسلكهم نتج من دينهم ثم إنسانيتهم ووطنيتهم، فكان ما يفعلونه صدقاً وعفواً.

لا أحد يحب العسكر، لكنهم في السعودية مختلفون، يرتدون دينهم وأخلاقهم قبل نوعية ملابسهم، ثم إن مهماتهم لا تطلب منهم خنق الناس أو قتلهم، بل مساندتهم وخدمتهم.

كل التحايا لهؤلاء العسكر النبلاء، فهم الضمانة الصادقة للوطن من دون حاجة للاستعراض والادعاء.

http://alhayat.com/Opinion/Jasser-AlJasser/4986997
المصدر: الحياة