د. حنيف حسن
د. حنيف حسن
رئيس مركز جنيف لحقوق الإنسان والحوار العالمي منذ العام 2014، وزير سابق، وأكاديمي، وكان مديراً لجامعة زايد.

الطغيان الديني

آراء

أدرك أني أقتحم ميداناً مليئاً بالألغام، وتابوها شيده كثير ممن حولوا الدين إلى تجارة رائجة، ووسيلة للكسب والسلطة والاحتكار والطغيان باسم الدين.

ندرك أن هؤلاء يتكلمون باسم الله ويلبسون أقنعة المقدس، ولا يصنعون له شيئاً غير أن يشوهوه ويدنسوه. وليست أزمة صورة الإسلام في العالم إلا جزءاً من جزاء عملهم وجريرة من جرائرهم. وأدرك تماماً بأن هذا الصنف ممن يزعمون بأنهم حماة للدين والعقيدة، ودعاة للشريعة، هم أخطر أعداء هذا الدين عمداً أو جهالة.

هذا «الطغيان الديني» لم يعد قاصراً على دولة محددة أو مجتمع معين، فالبلاء عام، وهذا الطغيان أصبح آفة، بل وباء ووبالاً نجني اليوم ثماره المرة، ونتجرع سموم آثاره كل يوم. بل وأصبح العالم كله مهدداً في أمنه واستمراره واستقراره ورقيه.

سرطان خبيث يفتك بالدول ويطيح بمؤسساتها، ويسري في جسد المجتمعات ويحيلها إلى جثة هامدة وإلى تدمير حتمي. قصص العنف والإرهاب وبشاعتها فاقت كل التصورات، وتجاوزت كل الحدود، وألغت كل الضوابط، دينية كانت أم إنسانية، بل وحتى حيوانية! وهي بكل تأكيد تستعين بفتاوى التكفير والتفجير، وتستمد منها شرعيتها الفاسدة.

هل هناك طغيان أبشع من هذا الطغيان؟ لا تقل هذه البشاعة المعاصرة عن الطغيان الكنسي المستبد في العصور الوسطى وقبل الثورة البروتستانتية على الكنيسة والتي تجلت مظاهره في قتل العلماء وحرق كتبهم وتجريم أفكارهم ونظرياتهم العلمية.

هذا ما حدث لجاليليو الذي قال بدوران الأرض حول الشمس، وكذلك جيورد أنو برونو الذي أحرقته الكنيسة حياً وذرته في الرياح، وكوبرنيوكس ونيوتن الذي تبنى القول بقانون الجاذبية. هذا هو باختصار تاريخ الكنيسة في عصور الظلام ونتائج طغيانها واستبداد رجالها معروفة للجميع.

الطغيان الديني في دولنا العربية والإسلامية له جذوره التاريخية ومراجعه ورموزه الدينية والتي كانت مصدر إلهام لكثير من التنظيمات المتطرفة والتي تفرخت عن جماعات الإسلام السياسي التي امتزج فيها التشدد والإقصائية وإلغاء الآخر مع شهوة السلطة والوصول إليها بأي وسيلة.

في خضم هذه الجماعات والتنظيمات المنحرفة خفت صوت الوسطية والتي هي صفة رائعة للدين الإسلامي، القائم على الفطرة والبساطة والقيم الإنسانية الجميلة، من رحمة وسماحة.

مشكلتنا ليست في قلة أو شح المحتوى الديني، وإنما في رداءة مقدميه من التجار بالدين، والوعاظ الفارغين، والمدرسة الفكرية التي أنتجتهم. انظر مثلاً إلى البرامج الدينية في التليفزيون والخطب والمواعظ الدينية وعناوينها ومحتوياتها لتدرك مدى العبث والهزالة فيها.

هذا إن سلمت من الأجندات الخفية للتنظيمات الدينية المسيّسة وأهدافها الخبيثة لتجنيد الشباب ودفعهم إلى ميادين العنف والإرهاب. وبحيث لم يعد أي مجتمع في مأمن من خطورة هذه التنظيمات على أمنها واستقرارها.

والمحاكمات التي تمت في دولة الإمارات لأفراد تلك التنظيمات الإرهابية من جماعة «الإخوان المسلمين» و«المنارة» وأخواتها دليل على مدى استفحال هذا المرض، وهي في الوقت نفسه رسالة على يقظة الدولة لمواجهة هذا الإرهاب المنظم المهدد للدولة وكيانها ومكتسباتها.

ولعل أكبر تحد يواجهه المرء في بلداننا العربية والإسلامية هو الثقافة الدينية التي يحتاجها من حيث المحتوى المعرفي في مراحله العمرية المختلفة. ويماثل ذلك التحدي، أهلية القائمين على التثقيف الديني وتعليمه. سواء أكان ذلك في مؤسساتنا التعليمية بمراحلها المختلفة أم من خلال وسائل الإعلام المتعددة، ومنابرنا الدينية. وهي كلها هموم وتحديات جسام تتطلب إرادة سياسية قوية وجهوداً جبارة لعملية إصلاح شاملة لمنظومتنا الدينية ومجالاتها.

بغير وجود استراتيجية شاملة للإصلاح وتحديد ماهية المخرجات من معاهدنا الشرعية ومواصفات وأهلية هؤلاء الخريجين والمهارات اللازمة فيهم، فإننا سوف نستمر في هذه المعاناة التي تتجسد في الخطاب الديني الباهت أو الكاره أو الحافل بالخزعبلات والقصص البائسة التي لا تلتفت إلى الحياة باعتبارها قيمة عظيمة ونعمة ربانية كبرى أنعم الله سبحانه وتعالى بها علينا لعمارة الأرض ونشر قيم العدل والإحسان.

وإنما تنصرف طاقاتنا وأوقاتنا وجهودنا لترسيخ ثقافة الهدم لا البناء وإلى التخريب لا التعمير وإلى الإفساد لا الإصلاح.

المصدر: البيان