د. السيد ولد أباه
د. السيد ولد أباه
كاتب وأستاذ جامعي موريتاني، له كتب ودراسات عديدة منشورة في ميادين الفلسفة المعاصرة وإشكالات التحول الديمقراطي.

العراق وقواعد اللعبة الدولية الجديدة

آراء

لم يجد الرئيس الأميركي باراك أوباما ردة فعل مناسبة على الزلزال العراقي الأخير سوى إسداء النصيحة للأطراف السياسية العراقية بالتحاور والتشارك في الحكم، وإرسال عدد محدود من المستشارين العسكريين لمساعدة حكومة بغداد على وقف تقدم متمردي «داعش» وحلفائهم الذين أصبحوا على أبواب العاصمة بغداد.

الموقف الأميركي البارد يعبر عن مأزق دبلوماسي حاد إزاء أحد أهم الملفات الدولية الذي استأثر باهتمام واشنطن منذ حرب، 2003 التي شنت لهدفين هما: الحرب الاستباقية ضد الإرهاب، وتصدير الديمقراطية الليبرالية. وكانت النتيجة مزيداً من الإرهاب والعنف والاستبداد والإقصاء والتمييز الطائفي. المفارقة الكبرى أن الإدارة الأميركية وجدت نفسها في وضع يفرض عليها التنسيق مع إيران التي سلمتها مفاتيح البيت العراقي، بحيث تحولت الورقة العراقية إلى ورقة رابحة في المسار التفاوضي المستمر حول الملف النووي الإيراني.

في هذا السياق، نحيل إلى التحليل المركز الذي قدمه الباحث السياسي الأميركي المرموق والنافذ «والي نصر»، وهو من أصل إيراني، في كتابه الأخير «الأمة التي يمكن الاستغناء عنها» the dispensable nation حيث بين أن السياسة الأميركية في المنطقة قامت على هدف عزل إيران بالتركيز على كبح تهديدها العسكري النووي من خلال آليتين متعارضتين للضغط والتأثير: فتح قنوات التواصل والعقوبات الاقتصادية، وقد استطاعت طهران تجيير الآليتين في اتجاه مصالحها الحيوية باستغلال الحاجة إليها في الملفات التي تخدمها (كإسقاط نظامي طالبان وصدام حسين)، واستخدام ورقة العداء الأيديولوجي والاستراتيجي لتوطيد حضورها في الساحة الداخلية والإسلامية، وتحقيق مكاسب عملية في علاقاتها مع القوى الدولية الأخرى (روسيا والصين بصفة خاصة)، وهكذا استفادت إيران من ثنائية ائتلاف المصالح وصراع الموافق.

وإذا كانت إدارة بوش الابن هي التي تسببت في المأزق، فإن خليفته لم يتمكن من وضع استراتيجية بديلة، بل اتبع خيار الحد الأدنى من الفعل باحتساب الحد الأدنى من مخاطر التدخل، من خلال مفهومين رئيسيين تكررا في خطاباته العلنية: «القبضة الخفيفة» light footprint التي تعني استخدام أدوات القوة غير المكلفة وغير الخطرة مثل الطائرات من دون طيار والضربات الإلكترونية، و«القيادة من الخلف» leading from behind بمعنى الاكتفاء بأداء دور محوري غير مباشر في أنماط التدخل العسكري المفروضة (كما تم في الحالة الليبية).

بيد أن هذه المقاربة الدنيا لا تبدو فعالة في التعامل مع الأزمات الدولية الراهنة، وفي مقدمتها الأزمات الشرق أوسطية التي تتمحور راهناً في الملفين السوري والعراقي، وهما ملفان متداخلان لا يمكن التغافل عنهما. ولا شك أن الخطأ كله هو اختزال الموضوع العراقي في سردية الحرب على الإرهاب، مما نجد له مؤشرات واضحة لدى بعض الدوائر الاستراتيجية الأميركية التي تميل إلى توطيد التحالف مع إيران في مواجهة «التطرف السُني»، الذي هو منبع حركية الإرهاب المعادية لأميركا والغرب ولو اقتضى الحال إنقاذ رئيس الحكومة العراقي «المالكي» إعادة تأهيل النظام السوري والتضحية بمعارضته، التي تركت فريسة بين مخالب الجيش الحكومي والمتطرفين من مسلحي داعش وجيش النصرة.

إنما نريد أن ننبه إليه هو أن الساحة الشرق أوسطية تمثل اليوم ساحة اختبار كبرى للعلاقات الدولية الجديدة التي لم يعد بالإمكان إدارتها وفق النموذجين التاريخيين المألوفين وهما: توازن القوة أو استقرار الهيمنة الأحادية، ومن هنا انبثاق أنماط ثلاثة جديدة من الدبلوماسية نستخدم لوصفها عبارات «برتراند بادي»: دبلوماسية التواطؤ ودبلوماسية الاحتجاج ودبلوماسية التحدي.

دبلوماسية التواطؤ تعبر عن عجز القوى الدولية الرئيسية عن استخدام عناصر قوتها في تغيير مجرى النظام الدولي بحيث تضطر إلى الاكتفاء بعرقلة خصومها المنافسين بدل تحقيق مكاسب فعلية في النفوذ، في حين تسعى القوى الإقليمية والدول الضعيفة إلى دبلوماسية الاحتجاج والتحدي بتوتير اللعبة الدولية واستغلال عجز الأطراف القوية لتأكيد حضورها وإعلاء صوتها في الساحة الدولية (كوريا الشمالية وفنزويلا وإيران..).

في هذه المعادلة الجديدة انتقل العالم من نموذج العلاقات الدولية نفسه (أي العلاقات بين الدول) إلى نموذج العلاقات الاجتماعية – كما يقول بادي – باعتبار أن المجموعات الأهلية والمكونات القومية والدينية أصبحت أطرافاً فاعلة في اللعبة الدولية، مما نلمس آثاره جلية في الصراع العراقي – السوري الذي يدور في منطق «المجتمعات المتحاربة» نتيجة لأخطاء جوهرية ارتكبتها الأنظمة الحاكمة في إعادة إنتاج الطائفية السياسية وتضمينها في أطر إقليمية أوسع، بحيث اختل عملياً المنطق القانوني المؤسسي للدولة الحديثة ولو يعد أداة فاعلة لتدبير التنوع الاجتماعي.

لحل الأزمة المتفاقمة لا يكفي المطالبة بمصالحة وطنية بين فرقاء سياسيين لم يعودوا فاعلين في ساحات مشحونة بالاصطفاف الطائفي، بل لا بد بالتفكير في مسارين مزدوجين:

– مسار الدبلوماسية الدينية والمذهبية، التي تنزع لفك الألغام الطائفية التي قوضت النسيج الوطني المتداعي. يعني الأمر هنا قيام المؤسسة الدينية بدور فعال في المصالحة المجتمعية بفك الارتباط بين الانتماء العقدي والمذهبي من جهة ومن جهة أخرى الانتماءات الأيديولوجية التي تتدثر بالعباءة الدينية بدل أن توظف هذه المؤسسة الدينية في تكريس الاستبداد والهيمنة وبدلاً من أن تكون طرفاً في الفتنة الأهلية.

– مسار الهندسة السياسية الذكية الذي يضمن من خلال آلية انتقالية توافقية تحرير البلدان من الاستبداديات الإقصائية وأنظمة التمييز الطائفي في اتجاه أنظمة اندماجية ديمقراطية متسامحة ومنفتحة. وغني عن البيان أن الخيار اليوم محصور بين سيناريو التفكك والتحلل الذي غدا وضعاً قائماً في سوريا والعراق، وسيناريو الاتحاد الاندماجي المرن الذي يراعي الخصوصيات الجغرافية والبشرية والتوازنات المجتمعية المختلفة، وهو نموذج أثبت فاعليته وجدواه في تدبير التنوع والاختلاف في المجتمعات المركبة وفي إخراجها من حالة الاحتقان والصراع إلى حالة الأمن والاستقرار.

المصدر: الاتحاد