العرض الإيراني الكاذب

آراء

قبل عشرة أيام تقريباً، كشف وزير خارجية مملكة البحرين الشقيقة، عن أن إيران تحاول توسيط الكويت من أجل إجراء حوار مع دول الخليج العربية، متعهدة بـ «فتح صفحة جديدة» في العلاقات بين الجانبين. ويوحي مثل هذا الحديث بأن اليد الإيرانية ممدودة بالسلام والمودة، وأن طهران تُعلن للعالم حسن نيتها ورغبتها في إنهاء التوتر الذي يشوب الأجواء بين ضفتي الخليج منذ وقت ليس بالقليل، فيما دول الخليج العربية هي من يتردد في ذلك أو يؤخره. فماذا فعلت إيران لتثبت حسن نيتها بعد هذه الدعوة مباشرة؟

بعد ثلاثة أيام فقط من حديث وزير الخارجية البحريني أعلنت الولايات المتحدة الأميركية أن سفينتين أميركيتين اعترضتا يوم 28 آذار (مارس) سفينة تحمل أسلحة من إيران كانت في طريقها إلى الحوثيين الذين يخوضون حرباً ضارية ضد الشرعية في اليمن، وأن الأسلحة التي كانت مخبأة تضم 1500 بندقية كلاشنيكوف، و200 قذيفة صاروخية، و21 بندقية آلية عيار 50 مليمتراً.

وبعيداً مما فعله الحوثيون من اجتياح المحافظات اليمنية ومحاولة فرض الأمر الواقع بقوة السلاح، وهو الأمر الذي استدعى تدخلاً خليجياً لإعادة الأمور إلى نصابها، فإن التوقيت الذي اختارت فيه إيران أن تُرسل هديتها الملغومة مثير للتساؤل، لأن هناك مفاوضات وشيكة للسلام يُنتظر أن تبدأ أولى جولاتها الأسبوع المقبل، ولم يقبل الحوثيون عقد هذه المفاوضات إلا مع إحساسهم باقتراب الحسم العسكري مع توالي انتصارات قوات التحالف. وإرسال الأسلحة إلى الحوثيين يعني أن إيران تريد للمواجهات العسكرية أن تستمر، وتعمل على إطالة الحرب بمقدار ما تستطيع، غير مكترثة بما يحل باليمن نتيجة هذه الألعاب غير الشريفة.

وأشار البيان الأميركي الذي كشف عن تلك الحادثة، إلى أنها ليست المرة الأولى التي تُضبط فيها شحنات أسلحة من إيران في طريقها إلى اليمن، ففي يوم 20 آذار ضبطت البحرية الفرنسية سفينة محملة بالأسلحة، وفي يوم 27 شباط (فبراير) صادرت البحرية الأسترالية شحنة أسلحة ثالثة يحملها مركب شراعي.

والفصل التالي في جهود «الحوار» الإيرانية كان حديثاً للجنرال محمد علي جعفري، قائد «الحرس الثوري» الإيراني، يوم الثلثاء 5 نيسان (أبريل) الجاري، جاء فيه: «نحن في الحرس الثوري الإيراني وضعنا الخطط اللازمة وتهيأنا للرد على سلوك السعودية بالمنطقة في حال صدرت الأوامر». ووزع قائد «الحرس الثوري» اتهاماته على دول الخليج، وتوعد بإشهار سيوف الانتقام منها.

القضية ليست في السلوك الإيراني وحده، فإيران بنفاقها السياسي وإظهارها غير ما تُبْطن ليست بغريبة عنا، وهذه الألاعيب السياسية نعرفها حق المعرفة، لكن القضية في الفجاجة التي يبدو عليها السلوك الإيراني بمد يد للحوار فيما اليد الأخرى تشهر السلاح وتسعّر الحروب، ولسانه يكيل البذاءات ويثير كوامن العداء، وهذا ما يجعل أي حديث من جانب إيران عن الحوار مجرد نكتة سمجة تطفح بالاستخفاف والهزل في مَواطن الجد.

الحقيقة أن الدعوة الإيرانية الفارغة إلى الحوار المزعوم تمثل أحد أوجه النفاق السياسي الذي تدمنه إيران، فهو محاولة للعزف على النغمة التي أطلقها أوباما حين قال في حديثه لمجلة «أتلانتك»: «على السعودية وإيران تعلّم مبدأ التعايش معاً، والتوصل إلى سبيل لتحقيق نوع من السلام». وقد سارعت الانتهازية السياسية الإيرانية إلى تلقف تصريحات صادرة عن «الشيطان الأكبر» لتبدو بمظهر من يبحث عن التعايش. وليست هذه هي المرة الأولى التي تمارس فيها إيران لعبة التناغم مع توجهات «الشيطان الأكبر» وإطلاق العنتريات والتهديدات ضده، فيما الصفقات التي تُبرم تحت الطاولة لم تتوقف يوماً.

إن أي عرض للحوار من جانب إيران هو عرض كاذب بالضرورة، لأنها تقيم استراتيجيتها على زعزعة استقرار الدول العربية واختراقها بواسطة تنظيمات تابعة لها لتنفيذ أجندات إيرانية تتعارض غالباً مع المصالح الوطنية لهذه الدول. والحقيقة أن إيران لا تملك غير هذه الطريقة سبيلاً لتثبيت النفوذ، لأنها لا تستطيع أن تقيم علاقات طبيعية تهدف إلى تبادل المصالح والمنافع، وليس في نموذجها ما يجذب أياً من دول العالم إليها، على العكس من دول الخليج العربية، التي تسعى دول المنطقة إلى التقرب منها، لأنها تقدم نموذجاً ناجحاً لبناء الدولة القوية المتماسكة التي تحقق إنجازات في كل المجالات.

إن تمدد إيران، والحالة هذه، يرتبط بإضعاف كيان الدول العربية، والنفاذ من شقوق الخلافات وتوسيعها والضغط عليها لتتحول إلى فجوات عميقة وثقوب سوداء يسهل لها أن تملأها عن طريق صناعة كيانات موالية تحتكم إلى القوة لفرض كلمتها. وقد تكرر هذا النموذج في لبنان وفي العراق وفي اليمن، وفي كل مرة كان يجلب معه الخراب والتشظي والاحتراب الأهلي وتعطيل كل مفاعيل التنمية وفرصها. ولا يبدو أن إيران تنوي تغيير هذه اللعبة التي تشعر أنها أفلحت معها أكثر من مرة، ولاسيما أن الضحايا والكلفة الباهظة لا تتحملها إيران، بل تتحملها دول غيرها، ومن ثم فإنها لن تتردد في تكرار اللعبة متى وأين استطاعت أن تجد منفذاً.

في هذا الإطار فإن كل دعوة للحوار ليست إلا تسويفاً من أجل تحقيق هدف معين. وبدلاً من أن تكون الدعوة إلى الحوار مدعاة للاطمئنان، فإنها حين تصدر عن إيران تثير الشكوك حول ما يمكن أن تكون الجارة المثيرة للقلاقل تدبر لتنفيذه.

إن المسار التنموي الذي انتهجته دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية يحتاج أكثر ما يحتاج إلى الاستقرار والأمن في المنطقة، لأنه الإطار الذي سيتيح تحقيق إنجازات أكبر نحو الحداثة والتطوير والتقدم وتعزيز الازدهار والرخاء، اللذين تحققا على رغم كل ما تموج به المنطقة من اضطراب، وما شهدته من حروب لم تتوقف منذ الثورة الإيرانية عام 1979. وهذه الحقائق هي ما يجعل دول الخليج العربية الطرف الأكثر حرصاً على الحوار، شرط أن يكون حقيقياً، وليس مجرد مناورات تثير الملل لفرط تكرارها.

وحتى لعبة تقسيم الأدوار الإيرانية لم يعد فيها ما يثير الاهتمام، حيث توجد دائماً قوى وشخصيات يُسند إليها أداء دور الحمائم الداعية إلى السلام، والمنادية بالانفتاح على العالم، ليراهن عليها الغرب زمناً ثم تسقط رهاناته بعد أن تتكشف الحقيقة المعروفة سلفاً لمن يريد أن يعي، وهي أن هذه القوى والشخصيات ليست إلا قطع شطرنج يتم تصعيد بعضها لتنفيذ أهداف مرسومة. ولا ندري ما إذا كان الغرب يبلع هذا الطعم حقيقة أم أنه يمارس هو الآخر لعبة النفاق التي تتيح له أن يبقى ممسكاً بكل الخيوط.

في كل الأحوال، فإن دول الخليج العربية لا تغلق للحوار باباً، لكنها جاهزة تماماً للبديل، وهو الدفاع عن أمنها واستقرارها، وتأمين متطلبات هذا الأمن والاستقرار في الجوار الإقليمي الذي تمارس فيه إيران هوايتها الأثيرة في اصطناع الكيانات التابعة وتغذية أسباب الفوضى. وحين تكون إيران جاهزة للحوار فعلاً، فإننا جاهزون له. وإلى أن يحين هذا الوقت، فإننا سنحمي أمننا بكل الوسائل، ولعل دروس السنة الأخيرة منذ انطلاق «عاصفة الحزم»، تكون قد وصلت إلى كل المتربصين.

المصدر: صحيفة الحياة