هالة القحطاني
هالة القحطاني
كاتبة سعودية

العهد الجديد

آراء

حين ألقى خادم الحرمين الشريفين خطابه التاريخي في سبتمبر العام الماضي بالسماح لدخول المرأة إلى مجلس الشورى، لم يكن يعلن وقتها دعمه واحترامه وتقديره لها فقط، مع العلم أنه أشاد بأهميتها في المجتمع في أكثر من مناسبة، بل شحّذ بخطابه همّتها وجعلها تعطي بقوة أكبر كأمٍّ وموظفة وعاملة مخلصة في هذا الوطن، الذي أسهمت كثيراً في إرساء أساساته وساعدت في دفع عجلة التنمية بجانب شقيقها الرجل، ولكن لم تحظَ بنفس الاهتمام والفرص والمميزات التي حصل عليها، بسبب بعض التقاليد والعادات التي توارثتها الأجيال من زمن الجاهلية، ليسبب ذلك فيما بعد نوعاً من الخلل المركب، الذي جعل تواتره على مر السنين المشكلة أكثر تعقيداً ليُهمش على أثره النصف الآخر من المجتمع.

وقد عبّر قائد الدولة في أكثر من موقف عن تشجيعه وإعجابه بنشاط المرأة في المجتمع، بعد أن سجلت نجاحاً فوق المستوى وغير متوقع على الرغم من الإمكانات المحدودة جداً الممنوحة لها، فبعد أن رآها تتفوق (كعالمة فيزيائية في تقنية النانو، وبروفيسيرة ورئيسة لقسم العيون ومركز الأبحاث، وسفيرة للنوايا الحسنة، ودكتورة في تخصص الطب النفسي، وعالمة في التقنية الحيوية ترفض استغلال أبحاثها أو علومها في الأغراض الحربية، وعالمة من ضمن أفضل العلماء حول العالم المنتظر أن يغيروا من وجه الأرض بأبحاثهم وابتكاراتهم، ومستشارة في التخطيط، ومديرة تنفيذية لصندوق الأمم المتحدة وأول عربية سعودية تترأس وكالة تابعة للأمم المتحدة وحاصلة على منصب الأمين العام ورئيسة لقسم الأبحاث، ومخترعة وحاصلة على براءة أكثر من اختراع)، فلن يقبل بعد ذلك أن تستمر عملية التهميش أو الإقصاء والاستمرار في الضغط عليها أو إبعادها عن قيادة شؤون حياتها، بل منحها مزيداً من المساحة التي من الممكن أن تعطيها حرية أكبر في التحرك والنمو والمشاركة في القرارات التي تخص مجالها ومجتمعها بصفة عامة، والمتابع للحراك والنشاط النسوي في الدولة سيلاحظ أن أغلب أسماء السيدات اللاتي تم اختيارهن تبدو مألوفةً بعض الشيء، حيث ارتبط بعضها بمبادرات ومشاركات سابقة كان لها دور كبير في إصلاح وتغيير بعض الأنظمة في السابق، بل أغلبهن لهن حصيلة من الخبرات التي أسهمت في بناء السيرة الذاتية لكل عضوة، ليوفي في نهاية الحلم خادم الحرمين الشريفين بوعده بتمكين المرأة وتعيين ثلاثين منهنّ كعضوات متفرغات في الدورة الحالية، بعد أن كانت في السابق تعمل كمستشارة غير متفرغة للمجلس الذي بدأ بانضمام أربع مستشارات في بداية الأمر، ثم ست، حتى وصل عددهنّ إلى ثلاث عشرة مستشارة، وكانت البداية الفعلية لهنّ في إحدى الدورات (الدورة الثالثة) عندما تمت مناقشة اللجنة التعليمية آنذاك موضوع التقاعد المبكر للمرأة العاملة، وكثيراً ما تأتي البدايات بتواضع، حيث يعدّ هذا العدد قليلاً جداً من بين 150، ولكن نطمح أن يتمكن العدد القليل من رفع نصاب العضوات في الدورات القادمة إن شاء الله، وعلى الرغم من ردود الأفعال السلبية، وتضارب الآراء والتحفظ على نتائج عمل المجلس في السنة الماضية، والاختلاف على آلية الاختيار، إلا أنه أسعدني جداً تدفق المشاعر الإيجابية التي أظهرها أغلب الأشقاء الرجال الذين سجّلوا ثقتهم العالية بقدرات السيدات اللاتي تم اختيارهنّ، ما جعل بعضهم يسرد إنجازاتهنّ وأعمالهنّ وبعض مبادراتهنّ السابقة التي سُجلت في خدمة المجتمع.

ومن الضروري أن نعلم في نهاية الأمر أن هذا المجلس تشريعي بالتعيين وليس برلمانياً بالانتخاب، حيث يتم اختيار الأعضاء من قِبل الملك من أهل العلم والخبرة والاختصاص، ويتم تحديد حقوقهم وواجباتهم وجميع شؤونهم بأمر ملكي، حيث تضمن الأمر مساواة المرأة بالرجل في كامل واجبات وحقوق العضوية دون تمييز، ليعلن الملك مرة أخرى دعمه ويذكر بأن (النساء شقائق الرجال) في أكبر خطوة للأمام، ومن قراءتي تدرج عملية التمكين كانت لإعلانه بوقت كافٍ محاسن إيجابية عملت على تهيئة المجتمع لهذه النقلة الحضارية التي تأخذه لبداية عهد جديد ينتقل فيه المجلس إلى مرحلة جديدة، وتدخل فيها الدولة والمجتمع السعودي إلى حقبة جديدة باكتمال النصف الآخر من المجتمع، الذي سيُسهم في صناعة القرار، التي أخرتنا عنها قليلاً عادة المقاومة و(الرفض) التي تتملك مجتمعنا بشكل لا إرادي، حيث اختبرنا ذلك في أكثر من حالة وموقف، لتثبت التجربة فيما بعد محاسن النظام أو الفكرة الجديدة، التي ما إن تُنفذ حتى تندمج في المجتمع وتصبح جزءاً لا يتجزأ منه، تجعلك في النهاية تحاول أن تتذكر سبب المقاومة فلا تجد لها أثراً.

وينتظر المجلس الجديد بجميع أعضائه عديداً من القضايا والأطروحات والتوصيات التي تهم شريحة وفئة كبيرة في المجتمع، وتبحث عمن يخرجها إلى النور، كما ينتظرهم إيجاد حلول وسطية لبعض القوانين والأنظمة والقضايا المهمة مثل قانون التحرش، وقانون الأحوال الشخصية، ما سيجعلهنّ يشعرن بشيء من الضغط في بداية الأمر، ولقد سبق وصرحت أغلب العضوات بأن اهتماماتهنّ لن تتركز فقط حول قضايا المرأة، بل بكل ما يتعلق بقضايا الوطن والمواطن التي من ضمنها قضايا المرأة، والبطالة والحماية والسكن، وقانون حماية الطفل.

نبارك لأنفسنا وللوطن وللقيادة وللعضوات الجديدات هذا التمكين، ونبارك لجميع الأعضاء الجدد هذا التعيين، نقدر كثيراً هذا الاختيار ونحترم قراراته، كما أن الحكم المسبق على الأمور في بدايتها وقبل التجربة لن يضيف أي شيء للمشهد سوى صورة تسبق الأحداث ومزيد من التشاؤم والإحباط الذي لن يفيدنا بشيء في الوقت الحالي، ولن يُفسِد اختلافُ الآراء سعادتنا المملوءة بالتفاؤل بعد أن أثلجت قلوبنا تلك التعيينات، التي تنفسنا فيها الصعداء في آن واحد، وأثرت بشكل إيجابي في نفوس نساء هذا البلد بعد أن سعين سنوات عديدة من أجل هذه اللحظة التاريخية، ستُطبع هذه المرحلة في الذاكرة لتحكي كل أمٍّ في المستقبل لأبنائها قصة بداية (العهد الجديد).

المصدر: صحيفة الشرق