الغش بين الفتوى والأخلاق

آراء

خاص لـ هات بوست:

كنت أظن أن سورية هي الدولة الوحيدة التي تقطع فيها النت أثناء إمتحانات الشهادة الثانوية، في محاولة للحد من الغش عبر الهواتف النقالة والسماعات المخفية، فتعطل البلاد لساعات نتيجة لذلك، لكن يبدو أن أكثر من بلد عربي يعتمد الطريقة ذاتها، إذ تناقلت وسائل الإعلام أن الجزائر قررت معاقبة الطلاب الغشاشين بالسجن على اعتبار أن قطع النت يؤدي لتعطيل الأعمال، ولا أعلم إذا كانت الأردن ستتبع الطريق نفسه.

لا يعتبر الغش في مجتمعاتنا أمراً مستهجناً، لا بل أنه قد يكون مدعاة تندر وإعجاب ب “الفلهوة”، وفي أفضل الأحوال قد يكون غير محبب، لكنه لا يرقى لدرجة الكره، فما بالكم بالتحريم؟ فالحرام في أعرافنا يختص غالباً بالمرأة وشؤونها، لبست، خرجت، تعطرت، توضأت مع طلاء الأظافر، نمصت، عملت، طلبت الطلاق، زنت، قائمة لا تنتهي، أما الشؤون الأخرى فمعظمها تتفاوت من حيث درجة الاستهجان، ولا بد أن تجد لها طريقاً لفتوى من هنا أو هناك.

والمفارقة أن شعوباً لا ترفع يدها عن ساقها إلا بفتوى، تعيش تحت وطأتها بكل شؤون حياتها، مشغولة بالحرام والحلال، تتغنى بالفضيلة والتقى، تمتلأ مساجدها بالمصلين، لكنها تحتاج لقطع النت كي لا يغش الطلاب في الإمتحانات، فهؤلاء لم يعلمهم أهاليهم ولا مدرسوهم أن الغش حرام، سواء كان في الكيل والميزان أم بورقة الامتحان.

الموضوع هنا ذو شقين، الشق الأول هو أركان الإسلام والشق الثاني هو الحرام.

فأركان الإسلام التي نعرفها ونحفظها عن ظهر قلب هي: نطق الشهادتين، الالتزام بالشعائر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، وهي لا تشمل الأخلاق، وبالتالي يمكننا بسهولة فهم عدم تعارض امتلاء المساجد مع كل ما يجري في مجتمعاتنا، رب قائل أن الصلاة يجب أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، إنما القائل ذاته سيكون مقتنعاً أن الحج يجب ما قبله، ومن ثم يمكنك ارتكاب ما تشاء من الذنوب ثم تذهب للحج فيغفر الله لك ذنوبك، وتنال شهادة إجتماعية يضيفها لقب “الحاج” ترفع عنك كثير من الشبهات.

لكن أركان الإسلام في كتاب الله ليست كذلك، ويمكن للمهتم أن يعود للتنزيل الحكيم والتأكد، فالإسلام هو الإيمان بالله الواحد، مع اقتران هذا الإيمان بالعمل الصالح، بغض النظر عما هو دينك أو ملتك، بالنهاية إن كنت تؤمن بالله وتعمل صالحاً فلا خوف عليك ولا حزن.

وبقدر عملك الصالح ستجزى يوم القيامة.

أما الحرام في هذا الدين الذي يضم تحت رايته كل من دعا إلى الله؛ فهو بيّن، و يتألف من بنود معدودة قوامها الأخلاق، تجازوها يعني عصيان أوامر الله تعالى، من ضمنها عقوق الوالدين وأكل مال اليتيم والفواحش والغش ونقض العهد وشهادة الزور والربا والتقول على الله.

لكن الحرام كما نعرفه ودرسناه وورثناه لا حدود له، يتمحور حول كل شؤون حياتنا اليومية، ابتداءً من ساعة اليقظة حتى الخلود إلى النوم، مروراً بكل ما تقوم به خلال نهارك وليلك، دخولك الحمام وخروجك منه، طعامك باليمين أم باليسار، عدد مرات غسيلك لحبات الأرز، نوعية قماش ثوبك، استخدام معطر له أم عدمه، النوم قرب الحائط أم على الوسادة، تختلف الفتوى هنا حسب الجنس، سماعك للأغاني، وأي مطرب ممكن وأيهم لا، وكون بيتهوفن الكافر يجوز أن نستمع لموسيقاه التي لا تحرك الغرائز أم لا؟ والحديث يطول عن أمور لا تخطر إلا لمن كان فارغ البال، لا يشغله ما يجري في العالم، لم يقرأ من كتاب الله سوى الوعيد، لم ير الرحمة، ولا المغفرة، ولم يهتم بثناء الله تعالى على من تدبر وتفكر في خلق الله ليسير نحو الأفضل ويقدم للإنسانية ما يفيد في العلم والحضارة.

يحضرني هنا ما قرأته منذ مدة عن سيدة تعففت من خلع الحجاب أمام قط ذكر، لعله كان رجل مسحور، ولعل ما ستقوم به كان حراماً، وبالطبع فإن الإسلام ليس مسؤولاً عن هذا التفكير المحدود، لكن لا بد لنا من الاعتراف أن الإسلام الموروث قد كرس في نفوسنا هواجس الحلال والحرام حتى بتنا ننتظر فتوى تبيح خلع الحجاب أمام القط.

وفيما يصنع العلماء ذكاءً بات ينافس البشر، وإذ تنتشر الدراسات حول الوظائف التي لن يشكل الذكاء الاصطناعي تهديداً لها، ييدو أن وظيفة مقدمي الفتاوى لن تهدد، على الأقل ريثما يزود المذكور بالبيانات اللازمة، ما لم تحصل معجزة ونبتعد عن دين الفتوى باتجاه دين المنطق، حيث العقل هو تكريم الله للإنسان، وطريق الأخلاق واضح لا لبس فيه.