خالد السيف
خالد السيف
كاتب و باحث سعودي

القاضي.. حين يُضطرُّ لمدحِ نفسهِ!

آراء

وَلَّى: «يحيى بنُ أكثم» قاضياً على أهلِ: «جَبلة» فبلغَ هذا الأخيرَ أنّ: «الخليفةَ الرشيد» قد انحدرَ إلى البصرة، فقال القاضي لأهلِ: «جَبلة» إذا اجتازَ: «الرشيد» هَا هُنَا فاذكروني عندَهُ بخيرٍ، فوعدوه بذلك. غيرَ أنّهم أخلفوه الموعدَ، إذ لمّا جاءَ: «الرشيدُ» ناحيَتهُم تقاعدوا عنه ولم يكن له ذكرٌ بالمرّةِ. فما كانَ مِن: «قاضي جبلة» إلا أنْ سرّحَ لحيتَهُ وكبّرَ عِمّتَهُ، وخرجَ فرأى «الرشيد» في «الحَراقةِ» ومعه «أبو يوسف قاضي القضاة» فقالَ قاضي جبلة مِن بعدِ ما غيّر سحنتَهُ-:

يا أميرَ المؤمنين ..نِعْمَ القاضي :«قاضي جبلة» عَدلَ فينا..وفعل كذا وكذا.. وجعلَ يُثنِي على نفسِهِ كثيراً بكلّ ما يُمكِنُ أنْ يُمدحَ به قاضٍ!

فلما رآهُ:«أبو يوسف» حتى عَرفَهُ فضحِكَ كثيراً. فقال له «الرشيدُ»: مِمّا تَضحك؟
فقالَ «أبو يوسف»: يا أميرَ المؤمنينَ.. إنّما كانَ المُثْني على القاضي هو القاضي نفسُهُ!. فما كانَ من: «الخليفة هارون الرشيد» إلاّ أنْ راحَ في نوبةٍ مِن ضحكٍ فَحَصَ على إثرِها الأرضَ برجلِه مِن شدّةِ نوبةِ ضحكهِ!!
ثم أمر بعزلِ: «قاضي جَبلة» فَعُزِلَ.

وقال الرشيدُ في حقّهِ: لا يَلِيَ لنا من الأمرِ شيئاً بعد اليوم.

ألم يكن الأولى بالأخ: «هارون الرشيد» أنْ يتريّث قليلاً مِن قبلِ أن يتّخذ مثلَ هذا «القرار» الذي لم يسلم من غائلة: «التّعسفِ» تلك التي كانَ مِن شأنِها إلحاقُ الضّررِ بمستقبل «قاضي جبلة» الوظيفي! والقضاءَ بالتالي على موهبةِ: «التمثيلِ» التي كانَ يتمتع بها القاضي!

كلاّ فإنّ «هارونَ» وصنيعَهُ مع «قاضي جبلة» لَمّا يقضِ بمَا يأمرهُ به الحقُّ، وبخاصةٍ أنّه الخليفةُ الذي يحجُ عاماً ويغزو عاماً، وما مِن خليفةٍ آخر قد نافسه على ذلك!(لِمن شاءَ أن يفقه فإنّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يحج إلا مرّةَ)!

يا «هارونُ».. ألستَ مَن كانَ يخاطِب: «السّحب» دونَ أنْ يكتَرِثَ بأيّ أرضٍ هي قد أمطَرَت ..إذ كنتَ وحدَكَ مَن يعيش فوق هاماتِها، في حين ظلّ: «مفتاح «خراج الأرض بجيبِ قميصك! ولئن ألمّ بقلبكِ شيءٌ من «قسوةِ» جراءَ حبّ الدنيا والتعلّقِ بها فإنّ:«الفضيل بن عياض» لدى البابِ، وما ثَمّ إلا برهةَ من زمنٍ وإذ بك مِن أهلِ الآخرة دفعةَ واحدة!

يا هارونُ.. وأنتَ منَ في: تأريخنا ألم يكن حرِيّاً بك أن تنتصرَ لـ:»قاضي جبلة» وتعزِلُ:«أهل جبلة» كلّهم وعن بكرةِ أبيهم، ذلك أنّهم لم يقدّروا :«قاضيهم» حقّ قدره، ويثنون عليه بما هو أهله ابتغاء أن يكونَ لديك: «محظيّاً» ويترقّى! أسوةً بِأقرانِه، وما كانَ بهذا بِدعَاً من: «القضاة»!

وبما أنّ أهل «جبلة» لم (يوجّبوا) القاضي، فإنه مِن السّفه: «الوظيفي» أنْ يفوّت زيارة: «الخليفة» دونَ أن يستثمرها لصالحهِ، فما كان من:«القاضي» إلا أن يضطلعَ بدور «المثني على نفسه» إحقاقاً لحقّه.. وإلا فكيف َ-بالله عليكم- سيعلم: «الخليفة الرشيد» إنجازات قاضي جبلة؟!

قال عمر بن الخطاب وهو يمتحن أحدَ الولاة: (ماذا تفعل إذا جاءك الناسُ بسارق أو ناهب؟ قال: أقطع يدَه، قال: فإن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدَك، إن الله قد استخلفنا عن خلقه، لنسُدَّ جوعتَهم، ونستر عورتهم، ونوفِّر لهم حرفتهم، فإن وفَّينا لهم ذلك، تقاضيناهم شكرَها، إن هذه الأيدي، خُلقت لتعمل، فإن لم تجد في الطاعة عملا، التمست في المعصية أعمالا، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية).

نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٣١٤) صفحة (٢) بتاريخ (١٣-١٠-٢٠١٢)