هالة القحطاني
هالة القحطاني
كاتبة سعودية

المؤسسة الفاشلة

آراء

«كانت درجة الحرارة 48 درجة مئوية حين جاء العامل لتركيب مولد المياه الجديد، بعد احتراق الحالي الذي أدى إلى انقطاع المياه عن المنزل، ولأنني كنت ضحية غش لعمالة في السابق, اضطررت إلى أن أقف معه فوق السطح لأشرف بنفسي على عملية التركيب».

هكذا دهمتني “دانة” بحديثها دون مقدمات، ثم جرّت كرسيا وجلست عليه أمامي لأرى في عينيها ثقة مبيتة بأنني سأستمع إليها، شعرت بالاستياء لأن مزاجي ذلك الصباح لم يكن على ما يرام، ولكن لم أستطع أن أخذل تلك الثقة المختلطة بآثار دمع رأيته في مقلتيها بإعطائها ظهري، ما يزعجني في ذلك الدهم الأوقات الصعبة التي تأتي فيها، ومع ذلك أرتبك كثيرا من فكرة التملص منها، وأدخل في صراع مع نفسي يحدث من الجلبة ما يكفي لإيقاظ القطة الساكنة بالداخل، التي ما أن تستيقظ حتى تأبى أن تغادر دون أن تملأني بخربشة الآخرين. تنبأ حدسي بطقس عاصف ماطر فسحبت علبة المناديل الورقية من خلف الكمبيوتر بطريقة آلية ووضعتها على حافة المكتب، ثم استرسلت:

“كانت ساعات الوقوف تحت الشمس كفيلة بنكء جرح قديم، ومع ذلك لم أتحمل منظر العامل يتصبب عرقا فشعرت بتأنيب الضمير ونزلت إلى المطبخ لأحضر له ما تبقى من مياه الشرب, فبدأت أشعر بالدوار والتعب, فهذه لم تكن أول مرة أشعر فيها بأنني الرجل الحقيقي لهذا المنزل, لدرجة دفعتني لتحسس شاربي أكثر من مرة, انهرت على أرضية المطبخ أبكي إلى أن تبللت بالخيبة والإهانة التي كانت تلفني وتحاصرني بسوادها, ولم أتمالك نفسي إلا بعد أن وجدت صغيرتي “بسمة” التي لم تتجاوز الخامسة تطبطب على كتفي, وتمسح عيني ووجهي بيدها الصغيرة, وبيدها الأخرى كانت تحاول إقحام قطعة مهشمة من البسكويت في فمي وهي تقول “لا تبكي ماما”. ..وانهمرت أوجاعها, وقبل أن تكمل رفعت علبة المناديل الورقية بهدوء, فسحبت ثلاثة بعصبية وغطت بها وجهها لثوان منحتني لحظة لأسألها: (لماذا لم تنتظري زوجك ليقوم بهذا العمل؟) وضعت يدها على صدرها ورمتني بنظرة أسى وكأنها تستجدي: “أحمد” الذي لم يكمل السنتين كان يتقيأ طوال الليلة التي قبلها ولم أذق طعم النوم, وحين اتصلت بـ”راشد” أجابني بعصبية بأنه قام بواجبه وأخذه إلى الطبيب منذ يومين, وأن علي الآن أن أنتظر ليأخذ الدواء مفعوله, وحين أخبرته بأنني مرهقة, وبحاجة ماسة إلى الماء, لأن مرض ابنه استنفد كل البياضات والملابس النظيفة والطفل كان في حالة مزرية وبحاجة إلى الاغتسال, أغلق الهاتف”.

رن هاتفي المحمول فتعمدت أن أجيب لكي أقطع هذا التدفق لتلتقط أنفاسها، بعد أن أنهيت المكالمة, أخذني الصمت, كنت أبحث عن كلمة مناسبة, ولكنها أكملت بهدوء وبنبرة أعمق “أول يوم بعد عودتنا من شهر العسل فوجئت به يتركني ويذهب إلى الاستراحة، فيما بعد اكتشفت أنها عادة تتكرر يوميا, وفي عطلة نهاية الأسبوع لا يعود إلا في صباح اليوم التالي, حتى أصبح المنزل كالفندق للنوم فقط, واجهته يوما وسألته “لماذا تزوجتني؟” قال بكل وقاحة إن والديه يريدان رؤية أبنائه قبل موتهما, فحقق لهما ما يريدان.. وتزوج!

لم أستطع مجاملتها، وعرفت تماما ماذا أريد أن أقول، ينبغي ألا نستمر بالادعاء أن هذا هو الزواج وعلينا تقبله، كل إنسانة تستمر على البقاء مع عقلية سقيمة مثل عقلية “راشد” بعد أن تكتشفها، عليها أن تتحمل وزر ما يصيبها من تبعات، لأن السكوت عن الخطأ خطأ آخر أشد فداحة، والأخطاء لا تبقى صغيرة بل تكبر سريعا وتتفاقم وتسوء لأن بعضنا يجبن من مواجهتها، وبعضنا الآخر يتلذذ بمتابعة مسلسلات عذابه.

المؤسسة الزوجية هنا أصبحت “مؤسسة فاشلة” لأنها من الأساس لا تقوم على المساواة في الحقوق والواجبات, لتطبيقها عادات بالية متوارثة من زمن الأجداد, متجاهلين أن ما كان يصلح لزمن مضى لا يصلح لزمن آخر, فمثلا في أول تغير يطرأ على الأسرة ويرزق الزوجان أول طفل, يعلمون الزوج كيف يخلي مسؤوليته تماما بعد خروج زوجته من المستشفى, ليقتصر دوره على شراء الاحتياجات وإنهاء الأوراق الثبوتية فقط, ويتحمل أهل الزوجة عملية التطبيب وتوفير الرعاية للأم التي أنجبت طفله, ليقتنع مع الوقت بأن مسؤولية أبنائه حين يولدون من واجبات زوجته وأسرتها, فيتفرغ لنفسه ويعلن (عزوبيته) ليبدأ وقت المرح مع رفاقه, وحين تنتهي الأربعون يعيدها إلى المنزل دون أن يقوم بواجبه الحقيقي كأب وزوج في تلك الفترة المهمة.

عزوف بعض الفتيات عن الزواج في مجتمعنا أصبح متعمدا, كثيرات يرين أن ليس هناك من يستحق المغامرة لأجله، فإذا دفع الاستهتار عددا من الشباب إلى تجاهل قوانين القيادة الآمنة على الطريق, وهم يدركون ارتفاع نسبة الحوادث, فهل ستسمح لهم أخلاقهم النزقة بقيادة أسرة بطريقة آمنة؟!

في هذا العصر لا تستسلم للاعتقاد التقليدي بأن الشمعة عليها أن تحترق لتضيء للآخرين، لأنه بإمكانك تغيير قدرها بإشعال الضوء!

المصدر: الاقتصادية