النمو الاقتصادي .. لا يكفي أبداً

آراء

اتخذتْ مؤشرات التنمية البشرية خلال الأعوم الخمسة الماضية اتجاهات أكثر تفصيلاً، وأكثر شمولية، وجمعتها تحت مظلة السياسات الاجتماعية. ابتكر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تلك المؤشرات المهمة، كانعكاسٍ لخبراته التراكمية ونتائج أبحاثٍ امتدتْ نحو قرنٍ مضى من الحياة البشرية، تركّزتْ على دراسة آثار السياسات الاقتصادية ودور الثروات والأزمات المالية والبيئية، وما تخلّفه وراءها في حياة المجتمعات. كان مؤدّى تلك الرحلة الطويلة اكتشاف أنَّ هناك عوامل أخرى لا تقل أهميةً عن دور تلك المذكورة أعلاه؛ فالأنظمة السياسية والاجتماعية، والخبرات الحضارية للمجتمعات، وأنماط الحياة المتخلّقة كنتيجة عنها، كانت لها أيضاً آثارٌ عميقة، قد تؤيد أو تلغي الآثار المتأتية عن السياسات الاقتصادية والتنموية المعمول بها.

هذا بدوره أفضى لابتكار مؤشراتٍ خلاقة جديدة على مستوى سلّم مؤشرات التنمية البشرية، ووصل بها إلى مستوياتٍ أعلى حتى من مجرّد قياس ومعرفة ما تحقق بشرياً، إذْ أصبح العالم بمواجهة شبكة مؤشراتٍ إنسانية أكثر من كونها بشرية، تأخذ في الاعتبار أبعاداً لم يكن مقدّراً لحزمة المؤشرات البشرية استيعابها، ولعل مما يُذكر في هذا الشأن كتغييرٍ محوري فيما أتحدّث عنه؛ تحوّل الاهتمام من مجرد قياس ما تحقق من منجزاتٍ للتنمية، إلى اهتمامٍ أكبر بما تحقق للسياسات الإنمائية! ومن مجرد خلق فرص عمل في الاقتصادات، إلى قياس درجة لائقيتها كفرص عمل أمام الباحثين المؤهلين عنها، ومن مجرد حصر عدد الأطباء والمستشفيات في المجتمع، إلى قياس مدى رضاه بالرعاية الطبية كاملة، وكذلك الحديث بالنسبة للتعليم وغيره من المجالات الحيوية في حياة المجتمع، إلى درجةٍ بلغتْ معها تلك المؤشرات من الشمولية ذروتها بقياس مدى الرضا بالحياة في مختلف المجتمعات حول العالم، وإصدار نتائجها سنوياً من خلال تقرير التنمية البشرية كأهم تقريرٍ دولي يبيّن كل ما ذكرته أعلاه.

كان لا بد من هذه المقدمة، قبل أن أستطرد متابعةً لما كتبتُ عنه في المقال السابق “قروض الظل المصرفي.. الإنقاذ الإنقاذ” المنشور هنا في الاقتصادية. إنَّ النمو الاقتصادي وارتفاع مستويات الدخل الكلي وزيادة الإنفاق المحلي وفرص العمل، وكل ما يقع تحت مظلّة السياسات الاقتصادية والمالية، تؤكّد نتائج تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أنّها لم تعد تحمل الدلالات الكافية لتحقق كلا من التنمية والرفاه المنشودين! وأنّها لم تعد تعكس درجة الرخاء والتقدّم المتحقق في حياة الأفراد! وها قد تأكّدتْ لنا تلك الحقائق في المقال السابق، فعلى الرغم من النمو القياسي للاقتصاد الوطني وزيادة الإنفاق، فقد ارتفع إزاءهما حجم المديونيات على الأفراد! وعلى الرغم من زيادة فرص العمل إلا أن فرص العمل اللائقة بمخرجات التعليم تكاد لا تُذكر، بل ثبت حدوث العكس من ذلك؛ إذْ مقابل تلك الزيادة حدث انخفاضٌ تجاوز 10 في المائة لمتوسط أجور العمالة الوطنية!

كان لافتا ما تضمنه التقرير الأخير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي فيما يختص بمؤشرات السعودية، فأغلبية مؤشرات قياس مدى الرضا عن التعليم والصحة والحياة بصفةٍ عامّة تحاشرتْ عند نسبة 60 في المائة! وبعضها جاء أدنى حتى من المتوسط العالمي، دعْ عنك الفجوة الكبيرة بينها وبين ذات المؤشرات للدول مرتفعة الدخل التي انتمتْ إليها السعودية في سلّم الترتيب.

إنّنا في مواجهة تحدياتٍ إنمائية لا تنموية جسيمةٌ في حجمها، وإنّي لأرجو أنّها ما زالت كذلك، وألا تكون قد تحوّلتْ إلى أزماتٍ مستعصية على الحل! ما يستدعي- في ضرورةٍ ملحّة- تطوير وتغيير كامل محتويات السياسات التنموية لدينا دون استثناء، والتحرّك بها إلى مستوى أعلى من المسؤولية والديناميكية والإنمائية أخذاً في الاعتبار ما يلي: (1) ضخامة حجم التحديات الراهنة؛ انخفاض مستويات الدخل، وزيادة المديونيات، وارتفاع معدلات البطالة. تدنّي نوعية فرص العمل المقدّمة، ومستويات أجورها والمهارات اللازمة لها. ضعف قنوات مشاركة فئات الشباب (يُشكلون 79 في المائة من المجتمع السعودي) في الحياة العامّة. شحّ الدعم والتمويل للمشروعات الناشئة، وارتباط ذلك بضعف ما تم إنجازه على مستوى تحقيق التنوّع الإنتاجي للاقتصاد. تدنّي الظروف المعيشية للأسر المتوسطة والمنخفضة الدخل، ما أفضى إلى زيادة حجم الشريحة الأخيرة بتغذية من الشريحة الأولى مع تفاقم ارتفاع مستويات أسعار المساكن والسلع وتكاليف المعيشة. تدنّي مساهمة المرأة في سوق العمل، وفي الحياة العامّة بصورةٍ أشمل. اهتراء أحزمة الكفاية والحماية الاجتماعية الخاصة بالأرامل والأيتام وكبار السن والمتقاعدين. تدنّي درجات الرضى حول مستوى الرعاية الصحية والتعليم والخدمات البلدية والنقل والترفيه، إلى آخر أثقال تلك التحديات الاجتماعية والاقتصادية.

(2) إمكانية الاستفادة من الثروات القياسية التي تراكمتْ لدى الاقتصاد اختصاراً للزمن، واستغلالها وفق آلياتٍ أكثر رقابة ومساءلة على مستوى إنفاقها، أخذاً في الاعتبار أن السياسات الاقتصادية والمالية الراهنة التي اهترأتْ عبر الزمن من المفترض أنّها خضعتْ للتحديث والتطوير، لترتقي كما أسلفتُ ذكره أعلاه إلى مستوى تلبية الاحتياجات البشرية والإنسانية لأفراد المجتمع.

ختاماً؛ يتطلبُ التغيير الجذري في كل ما تقدّم تغييراً أسبق للرؤية ومنهجية التفكير المترسخة لدى قيادات الأجهزة الاقتصادية والمالية والعمالية والاجتماعية، وهذا هو حجر الأساس! إذْ يستحيل تحقق كل ما تقدّم دون هذا التغيير الجذري في الرؤية ومنهجية التفكير، فكيف بالإمكان تحقيق هذا الشرط؟! الطريق إلى ذلك التحقق لن يكون إلا عبر قناتين، إمّا أنْ تترسخ القناعة بهذه الرؤية والمنهجية لدى قيادات ومن ثم منسوبي تلك الأجهزة المعنيّة، لتحل محل الرؤى الراهنة التي ثبت للجميع من نتائجها المتحققة على أرض الواقع انتهاء مفعولها، وعدم صلاحيتها للحياة. أو أنْ يتم إحلالها بقيادات جديدة تتوافر لديها القدرة والرؤى والمنهجية الكفيلة بتحقيق تلك الأحلام والطموحات.

ما يجب التأكيد عليه، والاجتماع حوله، أنَّ المحافظة على مكتسبات ومقدرات الاقتصاد والمجتمع، والعمل على إنمائها والارتقاء بها يظل هو الهدف الرئيس، الذي لا يمكن ولا يُقبل الانحراف عنه! وأنّ البقاء مكتوفي الأيدي أمام أي معوقاتٍ مهما كانتْ، وتركها تقف حجر عثرة أمام تحقيق ذلك الهدف الوطني والحيوي والمصيري! أؤكد أنّ تكلفة خسارته الفادحة، ستفوق كل أرقامنا وقياساتنا بأي لغةٍ كانتْ.

المصدر: صحيفة الاقتصادية