بين الشعر والفجر والماء

آراء

شاعر الفجر والماء، هو بعينه كما ينبغي على الفجر أن ينسرب في النفوس، وما على الماء أن يسيل في الجهات، وبماذا يصلح للماء إذا استحال جسداً وقلباً ولغة، سوى أن يتخلّق في ذلك الكائن الروحاني.. محمد العلي، أو بصفته وشهرته الرقيقة «شاعر الماء»!

من اقترب من شاعر الماء قليلاً، قليلاً فقط، سيغمره بغيمةٍ واعية وإنسانيةٍ خالصة.. ولن يصدق أبداً أن هذا «العلي» يوشك أن يلامس عامه التسعين، لن يصدق، لأنه لا أحد يقول له «هيّا» إلى أي دربٍ جميل، إلا ويجد هذا الرجل المسن، يثب وثباً كالطير.. كأنه يخاف أن يكون في الطرقات حياةً فاتنةً، لم تقع عيناه عليها، من قبل. كأنه يشعر أن النداءات التي يسمعها ليست مجرد كلمات، وإنما هي حياةٌ كاملةٌ ومصير.. فلا تسألوا «محمد العلي» عن حياته، ولا عن الماء. يكفي فقط أن تنظروا إلى ملامحه. إنه ذلك النوع من الرّجال النادرين، الذين يحملون أيامهم وكل خطواتهم على جباههم، ووسط أحداقهم، وبين حواجبهم، وفي تجاعيد أصداغهم.. والفجر يوم جاء أول مرة كان قد بذر الشعراء كحبات القمح في كل ناحية، فكان محمد العلي أشبه ما يكون بالفجر وكلماته كقامات السنابل!

لمحمد العلي:

«يقولون كنت هنا من أول فجر،

وآباؤنا بذروا فيك أحلامهم

بذرونا – ولما نزل في الأماني – على الموج،

وكنا حقول الهوى فوق زرقتك البكر

كنا الزغاريد تشعلها الفاطمات إذا ما أطلوا مع السحب!

ها نحن جئنا، ولسنا نريد اللآلئ..

لسنا نريد الذي لم يزل نازحًا في امتدادك،

إنا نريد الوجوه التي كان آباؤنا يبذرون على الموج،

أسماءنا، أن نسير على الأرض دون انحناء..

وها أنت كالحزن تنداح، تنداح دون انتهاء،

وبيني وبينك هذا الضباب الجميل،

ترمدت الشهب الحلمية، يلبس عري الصخور هو الآن..

لا ماء في الماء!».

حسناً!

ما هو الأثر؟ ليس الأثر أن يكون لك الوجه ذاته الذي يحمله الآخرون جميعاً، وليس الأثر أن تقول الشيء الذي قالته الملايين من قبلك. ليس الأثر أن تفعل الذي فعلته الناس فيما مضى، ليس الأثر أن تمشي ذات الطريق التي سلكها الأسلاف.. الأثر أن تضع خطوةً واحدة، ولو واحدة فقط، في طريقٍ لم يعبره أحد من قبل، وهكذا كانت حياة محمد العلي، بكل ما في كيانه من الطيور والفجر والماء!

المصدر: مجلة اليمامة