بين نقيضين

آراء

يتزامن شهر الهجرة مع تصاعد مشاكل الهجرات والمهاجرين والمهجرين حول العالم، وتتعالى صيحات الجميع، سكان وضيوف، نازحين ولاجئين، فيما يعاني العالم من مشاكل جمة في موارده ومناخه وسوء توزيع ثرواته، مما يفاقم من ظهور العنصرية، وإذ لا يمكن أن يكون للعنصرية وجه حق، فنحن نبحث عن تبريرات لعلنا نداري بها وجهها الفج. و”نحن” ربما تنطبق على كل الشعوب، أفراد وجماعات بدرجات متفاوتة.

في ظل هذا كله، يبدو أننا كشعوب هذه المنطقة نعاني أكثر من غيرنا من مشاكل الهجرة لأسباب عديدة، وكمسلمين قد نعاني أيضاً من عنصرية في بلاد المهجر، ربما تأخذ شكل مظلومية حقيقية أو كاذبة، وكمسلمين لطالما اشتكى المهاجرون من تعامل الشعوب المضيفة معهم، أو أنهم يأولون أي تصرف مسيء على أنه ضد انتمائهم الديني.

لكن هذا كله يترافق مع صورة نمطية طبعت في أذهان غير المسلمين عنا، ساهمت فيها عوامل عدة، إنما لا بد لنا من الاعتراف أننا مسؤولون بشكل أو بآخر عن جزء ليس بقليل منها، لا بل علينا الاعتراف أن كثير منا يحمل الصورة النمطية ذاتها.

فإذا نظرنا حولنا في مجتمعاتنا، نجد أن أغلب المسلمين بالهوية آمنوا بما وصلهم من الموروث دونما تدقيق أو تمحيص، الشريحة الأوسع منهم هي فئة صامتة غير معنية بالصورة أصلاً، وفي طرفيها نقيضان: الأول يعتبر نفسه مسلم على الطريق الصحيح والثاني في جعبته انتقادات ليست بقليلة للإسلام.

مثلاً كلا الطرفين مقتنع أن الإسلام يعتبر غير المسلم كافر. وأن المسلم هو من نطق الشهادتين والتزم بالشعائر فقط، وأن أداء الشعائر هو المعيار الأساسي لتقييم الإنسان، وأن غير المسلم لن يدخل الجنة، وأن الحرام واسع لا حصر له، الطرف الأول يحاول الالتزام وإلزام غيره بمحرمات غير محدودة وتتزايد وفق أهواء المفتين، والطرف الثاني يستغل ذلك في مهاجمة الدين.

كلاهما ذكور وإناث، مقتنع أن المرأة في الإسلام تابع للرجل، وأن الرجل يحق له الزواج أربع مرات دون قيد أو شرط، وأن الطلاق بيد الرجل فقط وللرجال عليهن درجة دائماً وأبداً.

كلاهما أضفى على الرسول محمد (ص) صفات لا تليق به، وكلاهما اعتبر أن الإسلام أباح الأسر والسبي والعبيد والجواري، وأنه انتشر بحد السيف، وأن القتال مباح ضد الكفار في الوقت المناسب.

هذا غيض من فيض تطرف، له وجهان الأول قدم ومارس في بعض الأحيان نموذج مشوه عن الإسلام، والثاني هاجم وعادى بناء على رؤية خاطئة، وهذا التطرف يحتاج إلى تغيير الطريق الذي اتبعناه خلال قرون في النظر إلى ديننا نحن قبل غيرنا، ونحن جميعاً معنيون، للوصول إلى صورة الإسلام كما جاء به الرسل واحداً تلو الآخر واكتمل مع رسولنا محمد، أركانه الإيمان بالله والعمل الصالح، وفيه {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة 256)، تشكل الأخلاق صراطه المستقيم وهي حكم الله الذي يجب عدم تجاوزه، وبيد الله وحده فرز الناس إلى الجنة والنار، والحرام محدد ومعدود وهو أبدي بيد الله وحده إلى أن تقوم الساعة، والمرأة والرجل خلقا من نفس واحدة وحسابهما في الآخرة واحد أساسه التقوى، كل له حقوق وعليه واجبات وفق علاقات من المودة والرحمة وإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، والتعدد له شروطه وظروفه الإستثنائية، والطلاق أيضاً كذلك، أما العبودية فقد جفف الإسلام منابعها وقدم حلولاً بديلة، ولكن خط سير الإنسانية لم يسمح بتحرر العبيد إلا بعد قرون عدة، والقتال كره وهو آخر الحلول بعد استنفاذ فرص السلام، وإن استخدم المسلمون الأوائل السيف لتوسيع نفوذهم فهذا منطق عصرهم وهو شأن سياسي بحت.

أما الرسول فهو على خلق عظيم ولم يأت بمعجزات مادية ولا خوارق، إنما هو بشر مثلنا لا يعلم الغيب وإلا لاستكثر الخير لنفسه، وفي هجرته عشرات العبر لعل أهمها تقبل الآخر وبناء مجتمع متعدد فيه كل الأطياف المختلفة، تحت شعار أساسي {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون 6)، ودعوته إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، دون إلزام، والعقوبات تطبق على من أساء للآخرين، بينما الله تعالى لا يساء له وأي ذنب بحقه هو إساءة للنفس تحتاج لمغفرة منه سبحانه.

والأهم من هذا كله أن الإسلام دين رحمة، خفف عن الإنسانية منذ 1400 عام الإصر والأغلال التي كانت تطبقها الشرائع المختلفة فجاء بشريعة حدودية تعطي المشرع مرونة التحرك بين حدود دنيا وعليا تبدأ من الصفح حتى أقسى العقوبات وفق درجة الجرم، لذا يصلح لأن يكون دين خاتم يتماشى مع كل زمان ومكان، وتكمن عالميته إضافة لذلك بأنه يمكن أن يضم تحت جناحه كل من وحدّ الله.

هل يمكن ل “المسلم” قبل الآخر أن يقتنع بهذا الكلام؟ إذا كنت مهتماً ما عليك إلا أن تعود للتنزيل الحكيم وتقرأه بعقلك لا بما رسخ في ذهنك، ومن ثم يمكنك نقل صورة دقيقة عن دينك سواء من خلال تصرفاتك أم أفكارك.

أخيراً، في ظل الأزمات العالمية يصبح من الأهمية بمكان تخفيف أي عبء، والعنصرية عبء، إن طبقت علينا أو طبقناها على غيرنا، وقمة الإجحاف أن تطبق على الإسلام أو منه.