جمال خاشقجي
جمال خاشقجي
كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية

«تشاينا تاون» في الرياض!

آراء

كل دول العالم لديها مشكلات حادة مع «الهجرة»، وينقسم ساستها بين مؤيد ومعارض. مثقفون يرون في الهجرة رافداً ثقافياً وتنوعاً. حقوقيون ينظرون لحقوق المهاجرين. مؤرخون يرونها تطوراً إنسانياً. اقتصاديون ينقسمون بين من يرى أثرها السلبي في وظائف المواطنين، وآخرون يرون أنها تحرك الاقتصاد الراكد. سياسي يميني يراها تهديداً لبنية الدولة الثقافية. متطرف مهووس بالنقاء العرقي.

وكذلك عندنا في الخليج والسعودية، ستجد كل الأفكار السابقة مع اختلاف كبير، فنحن لا نرى «الأجانب» كمهاجرين وإنما وافدين، وثمة فارق هائل بينهما، وبالتالي لا توجد لدينا وزارة أو مصلحة لـ «الهجرة» وإنما إدارة لـ «الجوازات والإقامة»، ولكن هذا لا يبسّط المشكلة، بل يعقدها أكثر.

«تشاينا تاون» في نيويورك تشرح الفرق، فهناك عالم مختلف عن بقية المدينة، لذلك سمّوها «مدينة الصين»، حيث جعلوا في مدخلها بوابة ترمز للصين. الوجوه صينية، وكذلك الرائحة والأطعمة واللغة والموسيقى، وأسماء المحالّ كلها صينية، ولكن سكانها يدفعون ضرائب لمدينة نيويورك وينتخبون عمدتها، ويثرون هناك ويشترون بيوتاً، ويبنون مصانع، ويتوسعون بتجارتهم ويرسلون أبناءهم إلى مدارس محلية ومن ثم إلى جامعات أميركية عريقة. إنهم أميركيون مثل بقية سكان نيويورك، وبالتالي يصب اقتصادهم في الناتج القومي للمدينة، ومن ثم في الناتج القومي للولايات المتحدة الأميركية.

في الرياض وجدة ودبي والبحرين، ثمة «تشاينا تاون» أو بالأحرى «لاهور جداوية» أو «كيرالا بحرينية»، مثلها مثل «تشاينا تاون» النيويوركية، الوجوه هندية، وكذلك الرائحة والأطعمة والألبسة واللغة والموسيقى وأسماء المحال، كلها بـ«الأوردو» أو «الملايالم» -لغة أهالي كيرالا- ولكنهم لا ينتخبون رئيس البلدية مثل سكان المدينة الأصليين، ولا يدفعون ضرائب، ولا يرسلون أبناءهم إلى جامعات محلية، ولا يشترون بيوتاً هناك، والأهم أنهم يحولون مكاسبهم إلى بلدانهم الأصلية، وبالتالي لا يضيفون شيئاً إلى الناتج القومي السعودي أو البحريني، وهنا مربط الفرس.

أحتاج هنا إلى خبير اقتصادي ليجيبني عن السؤال: هل الاقتصاد الناتج من نشاطهم التجاري من مطاعم ومعامل ومستوصفات ومدارس، مفيد للاقتصاد المحلي؟ أحسب أن السعودي أو البحريني المستفيد منهم الاثنين، أولهما الكفيل المتستّر على النشاط الذي يحصل على «عمولة إن كان متستراً» أو «حصة من الربح إن كان شريكاً»، وهؤلاء قلة، والثاني مالك العقار، حيث متجر الأجنبي أو سكنه، وإن توسعنا فأضيف المورد، ولكن نجح هؤلاء بعد عقود من العمل «الحر» في بلداننا في بناء شبكة خدمات لهم، فمنهم الموردون والموزعون. إنهم اقتصاد متكامل يعيش بجوار الاقتصاد الوطني مع قليل من التداخل معه.

إذا كانت ثمة فائدة تعود على الاقتصاد الوطني، فإن تمتعهم واقتسامهم الدعم الحكومي الكبير للوقود والسلع الاستهلاكية، بل وحتى المواد الخام، يأكل تلك الفائدة، بل ربما يكون وجود هذا الاقتصاد مكلفاً للدولة.

بعض دول الخليج ومدنه رتّبت أوضاعها وفق قواعد هذا الاقتصاد، فمثلاً دبي سمحت للأجنبي بالتملك ووفّرت بيئة مناسبة له لتدوير المال الذي يجنيه داخل اقتصادها، ولكننا في السعودية، الدولة الكبرى بعدد سكان كبير له خصوصيته التي تمنعه من تحرير الاقتصاد والتملك والإقامة، لا بد لنا بالتالي من أن نطور آليات تخصنا وتتوافق مع أحوالها وعدد سكانها الكبير، وجله من الشباب الباحث عن وظيفة وبيت وحياة كريمة.

ومن الظلم أن نطالبهم بوقف تحويل أموالهم وضخ أرباحهم الطائلة في الاقتصاد الوطني، وهم يعلمون أن أنظمتنا لا تعطيهم الحق في الجنسية ولو بقوا بين ظهرانينا عقدين أو ثلاثة، ومن حصل عليها منهم كان استثناء بمنحة أو مكرمة أو مصلحة ما، وهم أعداد قليلة جداً، وبالتالي لا يلامون إن حولوا أموالهم لأوطانهم، ونحن لا نسمح لهم حتى بإدخال أبنائهم إلى جامعاتنا، ولا حتى تملك العقار إلا بعد معاملة طويلة. لن أقول إن الحل في تجنيسهم، فهذا قرار سياسي يكاد يكون مستحيلاً، ولكن ما لم نحل الإشكال اليوم فإنه سيلاقينا في مستقبل الأيام بعد عقد أو عقود، وسيكون أكبر تحدٍّ لأبنائنا، إذ لا يعقل أن ينشأ أجنبي بيننا ويلد جيلاً ثم جيلاً آخر ويبقى أجنبياً. لقد انقلب عالمنا العربي في عام واحد، فما الذي يمكن أن يحصل خلال 50 عاماً؟ الكثير بالطبع!

ما الحل إذاً؟ يبدأ الحل بالاعتراف أن هذا خلل في البنية الاقتصادية للمملكة، إذ لم يتحقق إجماع حول ذلك، ولا يزال السعودي المستفيد من هذا الوضع الأعوج يدافع عن هذا الاقتصاد. يتلو ذلك اللجوء إلى الاقتصاديين لتقديم الحلول، والأفضل خطة متكاملة لعلاج الوضع، فاجتثاث أو توطين هذا الاقتصاد يحتاج إلى أعوام بعدما أُهمل عقوداً، وفيها نما وترعرع وتجذّر. سيقترح البعض فرض ضرائب على أرباحه وتحويلاته ورسوماً على نشاطه، ولكنه في ظاهره يتستر باسم سعودي، والسعودي لا يدفع ضرائب. إنه اقتصاد خارج منظومة الاستثمار الأجنبي الذي نظمته «الهيئة العامة للاستثمار» خلال أعوام عزها، حيث الضرائب والرسوم التي تعود على خزانة الدولة.

سيقترح آخر فتح منافذ للأجنبي المتستر عليه، مثل تسهيل إعادة تدوير الأرباح في الاقتصاد الوطني، وحق التملك والدراسة بالجامعات الوطنية في مقابل رسوم مثلما فعلنا في المدارس الخاصة، ولكن هل نريد لهم إقامة مفتوحة في المملكة جيلاً بعد جيل من دون أي احتمال للتجنس؟ نعود هنا الى القرار السياسي والمجتمعي الذي يرفض الفكرة.

الحل الذي أراه يكمن في العودة إلى «الاقتصاد الطبيعي»، والطبيعي هنا هو الاقتصاد القائم على أبناء الوطن فقط، طالما أننا لا نريد فتح باب التجنيس، والاستمرار والتوسع في السياسة التي تنفذها وزارة العمل السعودية بتوطين الوظائف، لتتقلص المدن ولترحل المصانع التي تحتاج إلى عمالة غير وطنية كثيفة، ولترتفع أسعار الخدمات حتى تكون مغرية للمواطنين بالقيام بها والتكسب منها.

إنه حلٌّ بسيط، لنفعل مثلما فعل الإرلنديون عندما اغتنوا. لم يجلبوا مليون أجنبي يخدمهم، وإنما خدموا أنفسهم بأنفسهم حتى لو أدى ذلك إلى رفع تكلفة الخدمات والسلع أضعافاً عدة. المهم أن نعيش وحدنا كسعوديين يعرف بعضهم بعضاً في سعادة ورخاء. إنه حل اقتصادي وليس عنصرياً.

المصدر: الحياة