تضخّم العقار .. هل هو خطر يهددنا؟ (2 من 2)

آراء

إني لأرجو أن يُؤخذ ما سأدوّنه في هذا المقال على محمل الجد، وأن يجد آذاناً صاغية! ليس لشيء إلا لتحقيق الاستقرار ثم الاستقرار ثم الاستقرار. نواة أي مجتمع بشري هي الفرد، تحيط به أسرته كدائرة أوسع قليلا، لكنها الأوثق ارتباطاً بذلك الفرد من أي رباط آخر، وهكذا تجتمع آلاف أو ملايين الأسر لتكوّن مجتمعاً واحداً ضمن حدوده الدولية المتعارف عليها. لا جديد هنا، فالأمر معلوم لدى الصغير والكبير منا، لكنه أحياناً يغيب عن حيثيات كثيرٍ من قراراتنا المصيرية، التي يتمنى المرء لو أنها غابت عن ذاكرتنا ولم تغب عن حيثيات تلك القرارات!

وعليه؛ إنْ تعرّض هذا الفرد لأي ضغوطٍ مادية ونفسية مهما كان وزنها، فإن آثارها تنتقل فوراً لمحيطه الأسري، ومن ثم لتجتمع بصورة أكبر على حساب المجتمع بأكمله! قد تتطور الأمور لما هو أسوأ من ذلك، فقد تتسع دائرة تلك الضغوط لتعمَّ أفراداً أكثر عدداً، وقد يزداد ثقلها عليهم مع مرور الوقت وديمومتها! بل قد تجلب مزيداً من الضغوط الأخرى المختلفة نوعاً وكمّاً، وتمضي تلك الدوائر في الاتساع والتعمّق ما شاء الله لها أن تمضي، إلى أنْ تنتهي إلى ما قدّر الله لها من نهايةٍ، هي في أوّل الأمر ونهايته لا تتجاوز كونها سُنة من سنن الخالق في خلقه، غير أنها بالنسبة إلى البشر لا أقل من أن يصفها ذو العقل منهم بغاية الشقاء والبؤس وسوء المصير!

ويسأل سائل؛ إنْ كانت المتوالية أعلاه بهذه السهولة بمكان، فلماذا لا يكتشفها المراقب والحارس المسؤول؟! وأرد عليه، إنها الأرقام والمتوسطات، كما أنّها إحدى أدوات التحليل والاستنتاج التي يُبنى عليها الكثير من القرارات والإجراءات، فهي أيضاً إن لم يُدقق جيداً فيما تُفصح عنه من نتائج ونهايات، فقد تكون سبباً مضللاً في وقوع ما لا ولن تُحمد عقباه! كيف؟!

لنأخذ على سبيل المثال ”متوسط الدخل” الذي يقيس مستوى دخل الأفراد في أي مجتمع. لديك مجتمعان صغيران جداً يتكوّن كل مجتمعٍ من فرديَن، متوسط الدخل للمجتمع الأوّل يعادل 2000 ريال (الفرد الأول 1500 ريال، الفرد الثاني 2500 ريال)، بينما متوسط الدخل للمجتمع الثاني يعادل 20000 ريال (الفرد الأول 1500 ريال، الفرد الثاني 38500 ريال). من الوهلة الأولى إنْ لم تكن تعلم بالتفاصيل ستحكم أنّ المجتمع الثاني أغنى من الأول! لكن إذا علمتْ بالتفاصيل ستكتشف أن المجتمع الأول هو الأفضل لانخفاض الفروقات بين أعلى وأدنى قيم للدخل فيه، وعملياً يوجد الكثير من الأدوات الإحصائية المساعدة على تجاوز ذلك التضليل، إلا أنَّ نقص البيانات يحرمك الاستفادة منها!

أظهر مسح المصلحة العامّة للإحصاءات والمعلومات لإنفاق ودخل الأسرة 2006م، وبعد إسقاط تغيرات تكاليف المعيشة عليه حتى الفترة الراهنة، أن الأسر ذات الدخل المتدني 2000 ريال فأقل؛ تستحوذ تكلفة السكن وموارد الطاقة والغذاء والمشروبات (السلع والخدمات الضرورية) على 86 في المائة من إنفاقها، بما يُشير إلى أن أي ارتفاعٍ في تكلفة أي من تلك البنود من شأنه أن يلحق أضراراً جسيمة بميزانية الفرد وأسرته. ما بالك إذا علمت أن فاتورة السكن تستقطع 60 في المائة من إجمالي إنفاق الأسرة المحدودة الدخل؟ وما بالك إذا علمت أن تكلفتها ارتفعت خلال الفترة 2006-2012 بنحو 87 في المائة، مقابل نمو دخلها خلال نفس الفترة بمعدل لا يصل حتى إلى خمس هذا المعدل؟! إن تلك التغيرات المتسارعة صعوداً في تكاليف السكن والمعيشة بالنسبة إلى الفرد، مقابل ضعف نمو دخله، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الضغوط المادية والنفسية على الأفراد وأسرهم، قد زادت خلال الفترة الأخيرة بصورة مؤلمة جداً، ولعل هذا ما يُفسر جزءاً كبيراً من قصّة ارتفاع المديونيات على الأفراد (654 مليار ريال)، واستقرارها عند أكثر من 6.6 أضعاف المديونية الحكومية (98.8 مليار ريال).

يتبيّن مما تقدّم أن أزمة الإسكان والعقار وما صاحبها من تطوراتٍ مفجعة في جانب مستويات أسعارها، زاد من ضغوطها على الأفراد وأُسرهم عشوائية القرارات والإجراءات ذات العلاقة، وتأخّرها الشديد، أفضى كل ذلك مجتمعاً إلى: (1) اضطرار الأفراد للاقتراض والاستدانة، والوقوع تحت واقعٍ معيشي أكثر سوءاً وتعقيداً. (2) زيادة جاذبية السوق العقارية لدى المدخرات الهائلة الباحثة عن فرص استثمار ومضاربة، مهّد لها الطريق لتحقيق حتى أكثر مما كانتْ تستهدفه؛ غياب التشريعات والأنظمة التي تكفل على أقل حدٍّ حماية السوق من الانزلاق إلى ما أصبحت قائمةً عليه اليوم.

لن تقف آثار الأضرار الجسيمة التي لحقت بميزانيات الأفراد وأُسرهم جرّاء ما تقدّم ذكره عند حدودٍ معينة، بل ستراها تندفع كسيل العرم تهلك الحرث والنسل، وقد تتفاقم بصورة خارجة عن السيطرة لتدمر حتى ما كان إيجابياً ومستقرا في مواقع أخرى لا علاقة لها مباشرة بهذا المتغير. فعدا الآثار المادية والنفسية والاجتماعية، ترتفع وتيرة الحذر والخوف من امتداد تلك الآثار الزاحفة بشرورها إلى الجوانب الأخلاقية والأمنية، وكل ركائز الاستقرار بالنسبة إلى المجتمع والبلاد على حدٍّ سواء. تزداد مخاطر تلك الاحتمالات بصورة مقلقة جداً كلما اتسعت دائرتها، وتأخذ مستوى أعلى من الخطر إذا ما أُضيف إليها المخاطر الأخرى القائمة بتشوهاتها، التي لا تقل خطراً على المجتمع ومقدّراته، كالبطالة بين الشباب، والفقر، والفساد، وانخفاض كفاءة التشغيل والأداء، وتردّي مستوى الرعاية الاجتماعية والصحية.

إنَّ تكلفة حل كل تلك التحديات والأزمات مهما بلغت قيمة فاتورته، لن تصل بأيّ حالٍ من الأحوال حتى إلى عُشر التكلفة الفادحة للخسائر الكلية التي قد تترتب عليها لا قدّر الله، فلنكن على قدر مسؤولية مواجهة هذه التحديات الجسيمة، وهو أمر قابل للتحقق متى ما توافرت الإرادة والفهم المسؤول.

إننا أمام خيارين لا ثالث لهما؛ الأول (تغليب المصلحة العامّة على الخاصّة) بأن تتحرك الإرادة والقرارات نحو اتخاذ القرارات الكفيلة بحل أزمة الإسكان على حساب القلّة المحدودة العدد من الملاك والمحتكرين. أو الخيار الثاني (تغليب المصلحة الخاصة على العامة) الذي ليس بعيداً عما هو قائم الآن. علمنا بطريق الرشاد والنجاة، وعلمنا بطريق النهاية والهلاك، فماذا نحن فاعلون؟!

المصدر: الإقتصادية