د. عمار على حسن
د. عمار على حسن
روائي، وباحث في العلوم السياسية ، وكاتب صحفي

تعدُّدية الفكر الإسلامي

آراء

في خمسة خطوط توازت حيناً، وتلاقت حيناً آخر، سار المتكلم والأصولي والفيلسوف والمتصوف والأديب في رحاب الحضارة العربية الإسلامية على مدار سبعة قرون، وكل منهم لا يلغي الآخر، حتى لو ناصبه العداء بعض الوقت، فعلى رغم مماحكات ومشاحنات الأفراد المنتمين إلى هذه المسارات الخمسة، بفعل الغيرة والضغينة والصراع على عقول الناس وقبلهم حجر السلطان، فقد ظل المجتمع للكل، وحريصاً بشكل آلي وعفوي متجدد على أن يُبقي الجميع موجودين، ويتدفق عطاؤهم بغير انقطاع، ولولا هذا الحرص ما وصلت إلينا كتب المختلفين مع التيار الذي تغلب، وهو ما يسمى «أهل الأثر» أو «أهل الحديث».

ففي القرن الثالث الهجري اشتد الصراع بين «أهل الأثر» و«المعتزلة» و«الأشاعرة»، وانتهى بعد صعود وجيز للمعتزلة إلى انتصار كاسح لـ«أهل الأثر»، وهو ما دفع بسببه المسلمون، ولا يزالون، الكثير من الأثمان، يضاف إلى الثمن الذي دفعوه جراء ضيق المعتزلة أنفسهم، وقت تسيُّدهم، بالمختلفين معهم، والسعي إلى إزاحتهم. ولكن عموم الناس تلقوا ما تناثر على رؤوسهم جراء هذه المعركة بطيب خاطر، وتركوا المحترفين في إنتاج الخطابات السلفية والفلسفية والصوفية والأدبية في خصام وتعارك، جعل بعضهم يؤمن في نهاية المطاف بأن الحياة تتسع للمختلفين معهم، بينما ظل البعض الآخر على ضيقه بكل من لا يخضع له بالقول والفعل.

ولأن آثار ما جرى لا تزال حاضرة وبشدة في واقعنا المعيش اختارت الكاتبة والباحثة الدكتورة ماجدة عمارة هذه المسارات لتكون موضوعاً لأطروحتها للدكتوراه التي تقدمت بها إلى قسم الفلسفة بكلية الآداب في جامعة المنوفية، وها هي تعيد ترتيبها وتشذيبها لتصبح طيِّعة أمام القارئ العادي، بقدر ما هي مألوفة ومهمة للمختصين، ويضمها كتاب على وشك الصدور عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، صار عنوانه «المتكلم والفيلسوف والأصولي.. مسارات في الفكر التشريعي الإسلامي»، وهو كما يدل العنوان، ينصب على المسائل الخاصة بالتشريع، وهذا رافد كبير في تاريخ المسلمين، بوصف الإسلام ديناً ذا شريعة، وليس عقيدة روحية فحسب. ومع هذا فإن الكتاب لم يخلُ من طرح أفكار أنتجها السياق الذي تفاعلت فيه تلك التشريعات، أو بمعنى أدق، أخرج فيه فقهاء وفلاسفة ومفكرون ومتصوفة وأدباء مقولاتهم وآراءهم وتصوراتهم ونصوصهم، التي لا تزال حاضرة في واقعنا المعيش.

واتخذت الباحثة من ثلاثة أعلام في تاريخ المسلمين ممثلين لهذه المسارات الثلاثة، فطرحت أبا حامد الغزالي كمثال للفقهاء، وابن رشد كمثال للفلاسفة، والشاطبي كمثال للسلفية أو الأصولية، ولكن هذا لم يمنع وجود مشتركات، أو مساحات للتلاقي، بين الثلاثة، فالغزالي، وإن كان الفقه قد استغلظ في مشروعه، فإنه لم يبتعد عن الفلسفة من باب نقدها، ورفض أسسها الإغريقية، مثلما طرح في كتابه «تهافت الفلاسفة»، وفي الوقت ذاته تفاعل مع التسلف في أغلب مشروعه حسبما حواه كتابه ذائع الصيت «إحياء علوم الدين». وابن رشد وإن كان عقلانياً يبحث عن الحقيقة بالمنطق والتفكير الإنساني المنضبط، فقد جعل البحث عما بين الشريعة والحقيقة من اتصال جزءاً من اهتمامه، ما جعله يبحث عن الجوانب العقلانية في الشرع وتأويل النص، ولم يضعه جانباً لحساب العقل المحض أو الخالص. والشاطبي وإن كان أصولياً فإنه لم يهمل العقل البشري في استنباط الأحكام، والسعي وراء مقاصد الشرع، وهو ما تضمنه بوضوح كتابه الأشهر «الموافقات».

ولم تأتِ الكاتبة على ذكر ممثل رابع للتصوف، لأن بحثها انصب على «الفكر التشريعي» بجوانبه الواقعية والمادية والمتشيّئة، وهي مسألة لا يُعنى بها التصوف، الباحث عن الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي المجرد. فالتصوف مسار عميق وعريض في الفكر الإسلامي بعمومه، وفي الحضارة الإسلامية بشمولها، ولكن قضية التشريع لم تدفع الباحثة إلى الانشغال به في هذا المقام، وإن كانت هي، كما تدل مناقشاتها خارج هذا الكتاب، ممن يعرفون قدر المتصوفة، ومستوى تأثيرهم العميق في تاريخ المسلمين. وحتى لو كان الغزالي، وهو ممن تناولت مشروعه بالفحص والدرس، قد انتهى متصوفاً مثلما يدل كتابه «المنقذ من الضلال»، فهو يأتي في مرتبة متأخرة بين ممثلي التصوف الحقيقيين من أمثال محيي الدين بن عربي والحلاج والسهروردي والنفري، كما أن هذا الجانب عند الغزالي لم يكن أيضاً هو موضوع هذا البحث.

أما الأدب، وهو جزء أصيل وكبير في التراث العربي الإسلامي، فقد لعب دوراً، خارج المسائل التشريعية بالطبع، في المجتمعات الإسلامية بشعره ونثره على اختلاف ألوانه وأصنافه النصية، وكذلك العطاءات الثرية في علم اللغة والبلاغة والنقد المنهجي عند العرب الأقدمين.

إننا أمام كتاب غاية في الأهمية، ولا سيما في زماننا هذا، الذي نسعى فيه إلى إصلاح ديني طال انتظاره، والذي تعد القراءة العقلانية والحرة للتراث، لا سيما في جوانبه التشريعية، إحدى طرائقه المتعددة.

المصدر: الاتحاد