د. عمار على حسن
د. عمار على حسن
روائي، وباحث في العلوم السياسية ، وكاتب صحفي

مصر: خيارات القوى الثورية

آراء

تتطلع أنظار كثيرين في مصر حالياً لتقف على الخيارات الماثلة أمام الطليعة الثورية، التي أطلقت ثورة يناير وظلت مخلصة لها حتى تجددت في ثورة 30 يونيو وأسقطت حكم جماعة «الإخوان»، ثلاثة خيارات في الوقت الراهن حتى تتحقق مطالب الثورة كاملة، والمتجسدة في استحقاقات طال انتظارها من قبل المصريين، ولا أتصور أن أحداً سينفك ويتنازل عنها أو ينساها، لأنها ملحة وضاغطة على أعصاب الحياة اليومية للأغلبية الكاسحة من طبقات الشعب. ويمكن أن نبلور هذه الخيارات على النحو التالي:

1 ـ العودة إلى الميادين: وذلك للاحتجاج على السياسات القائمة باعتبارها لا تترجم مبادئ الثورة (عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية) في الواقع المعيش، ومن منطلق الإيمان بأن ابتعاد السلطة الحالية أو القادمة عن «الخط الثوري» سيؤدي في النهاية إلى شحن رصيد غضب جديد في نفوس الناس وقلوبهم، لاسيما أن الثورة قامت أصلاً نظراً لأن شروطها كانت قائمة بقوة في عهد حكم مبارك، حيث تزوير الانتخابات، واستشراء الفساد، واحتكار القرار السياسي، وسطوة الأمن الغاشمة، والفجوة الطبقية الهائلة، والتجبر البيروقراطي الظاهر، وتراجع مكانة مصر إقليمياً ودولياً.

والاحتجاج المباشر قد يؤدي إلى عدة نتائج أولها إمكانية تنبيه السلطة إلى تأخر الاستجابة للثورة ودفعها إلى اتخاذ ما يلزم حيال هذا الاستحقاق المنتظر. وهذا بالقطع أكثر الاحتمالات أمناً وسلاماً وعدلاً أيضاً. وثانيها: عناد السلطة ومن ثم استمرار التظاهر بما يعرض مصر لتكون دولة فاشلة بعد أن نزفت كثيراً وطويلاً نتيجة استمرار الاضطراب السياسي. وثالثها، قيام جماعة «الإخوان»، إن كانت لا تزال في حالة مواجهة مع النظام الحاكم، باستغلال هذه الاحتجاجات من جديد لصالحها، وامتطائها مثلما امتطت ثورة يناير، وتحويلها كقوة دفع في الضغط على السلطة من أجل إجبارها على تقديم تنازلات لحساب الجماعة. وهنا يكون الثوار محل تلاعب جديد من قبل «الإخوان»، بعد أن تحولوا في النهاية إلى دفقة نقية من دم جديد تنساب في شرايين الجماعة فتقويها. والجماعة نفسها تراهن على هذا الخيار، فتطرح نفسها، كذباً وافتراء، باعتبارها راعية ثورة يناير أو حارستها، حتى تخدع شباب الثورة، الذين أزعجهم خروج بعض الوجوه لتشكك في ثورة يناير وتصفها، زوراً وبهتاناً، بأنها كانت مؤامرة خارجية.

2 ـ مسار الانتخابات: أي إمكانية أن تكمل هذه القوى بالصندوق ما سبق أن بدأته بحناجرها الهادرة، وأياديها التي كانت تدق الهواء، أو بالسواعد التي واجهت قوات الأمن في ثورة يناير. ولكن ما يجعل الثوار مترددين من المضي قدماً في هذا الخيار هو أن إمكانياتهم المادية لا تزال محدودة، كما أنهم لم يتوحدوا بعد بالقدر الذي يتيح لهم منافسة أصحاب المال أو المستندين إلى ظهور عشائرية وعائلية. كما يعرقل هذا الخيار حالة الضعف لدى الأحزاب السياسية المصرية في الوقت الراهن، وهي مشكلة مزمنة بدأت بعد عودة الحياة الحزبية عقب ثورة يوليو في مصر. ولكن هذا العيب يمكن تفاديه إن توحد التيار المدني المرتبط بالثورة في هذه اللحظة الفارقة ليملأ الفراغ السياسي الكبير الذي تعيشه مصر في الوقت الراهن.

3 ـ التحالف مع السلطة أو الصمت حيال أفعالها، والصبر عليها، خوفاً على الدولة التي دخلت في مواجهة حاسمة مع الإرهاب. فكثير من هذه القوى يرى أن الوقت غير مناسب لممارسة ضغوط شديدة على سلطة مؤقتة تقع على كتفيها مهمة ثقيلة وهي إعادة الأمن إلى الشارع ومواجهة التآمر الدولي على البلاد فضلاً بالقطع عن مكافحة العنف المفرط والإرهاب الذي تمارسه جماعة «الإخوان» وحلفاؤها. ويعتقد هؤلاء أن الدفاع عن السلطة الحالية بوصفها نتاجاً لثورة 30 يونيو، والجسر الواصل بين مرحلتين في تاريخ البلاد، عمل لابد منه، لأن العكس يعني رفع الغطاء السياسي عنها، وتعريتها أمام خصمها الأول وهو «الإخوان»، بما يصب في صالح هذه الجماعة في النهاية، مما يشكل خطراً جديداً على الدولة.

ولكن نجاح الثوار في تحقيق أهدافهم يظل مرهوناً دوماً بانضمام القاعدة الشعبية إليهم. فحين انضم عموم الناس إلى الطليعة الثورية يوم 28 يناير 2011 حدث الاختراق أو التحول الكبير نحو إسقاط حكم مبارك. وتمتع المجلس العسكري السابق بهذا شهوراً، فلما ساءت صورته في أذهان الناس، راح يتساقط تدريجياً، بينما راحت فرص «الإخوان» تتعزز مع احتضان أغلبية الشعب لهم في الانتخابات التشريعية والرئاسية. وحين استبد «الإخوان»، وبدأ فسادهم الإداري، وبانت الهوة الواسعة بين رغبتهم وقدرتهم، وبين ما وعدوا به وما يفعلونه في الواقع، راح من عولوا عليهم ينفضون عنهم، ويذهبون في اتجاه الثوار الذين هيأوا الشارع للانتفاض من جديد، وهو ما جرى بالفعل وأسقط مرسي عن الحكم، وبدأت عملية تصفية وجود «الإخوان» في أركان السلطة ومؤسساتها، وأخذت القاعدة الشعبية تتجه من جديد إلى الجيش لتقف إلى جانبه وتؤيده وتقدره، لاسيما بعد الدور الذي لعبه في حماية ثورة 30 يونيو.

وستتم ترجمة إرادة الشعب من جديد في عمليات الاقتراع المقبلة، البرلمان والرئاسة وقبل ذلك الاستفتاء على الدستور، لتحدد القاعدة الجماهيرية إلى من تميل، ومن يحظى بتأييدها ستكون له اليد الطولي في الحياة السياسية المقبلة. كما يمكن لهذه الإرادة أن تترجم، حال تردي الأمور، إلى احتجاج جارف يعيد صياغة الأوزان السياسية النسبية من جديد.

المصدر: الاتحاد