ياسر حارب
ياسر حارب
كاتب إماراتي

توقف الآن

آراء

شاهدتُ قبل مدة مقطع فيديو عن أحد الذين فازوا بلقب “أبطال سي إن إن” وهي سلسلة أطلقتها القناة قبل سنوات تُسجّل خلالها أعمال أشخاص بسيطين، من مختلف طبقات المجتمع، وضعوا حياتهم رهناً لخدمة البشرية، سواء كانت تلك “البشرية” فقراء في إفريقيا، أو مرضى في الحي الذي يسكنون فيه.

كان المقطع عن امرأة تُدعى “روبِن إيمونز” تسكن مدينة شارلوت في ولاية نورث كارولاينا، ولها أخ مختل عقلياً كان يهيم على وجهه في الشوارع طوال اليوم منتقلاً من ملجأ إلى آخر. وعندما استصدرت من المحكمة قراراً بأن تكون حاضنته، تفاجأت بأنه يعاني من مرض السُكّري لأن الملاجئ التي كانت تؤويه لم تكن تقدم لنزلائها طعاماً صحياً، بل معلبّاً وقديماً.

نظرت إيمونز حولها فوجدت بأن أصحاب الدخل الضعيف يأكلون طعاماً مُعالجاً صناعياً لأنهم لا يستطيعون تحمل تكاليف الطعام الصحي، كما أنه غير متواجد في أحيائهم وعليهم استخدام المواصلات العامة حتى يصلوا إلى محلات متخصصة في بيع الطعام العضوي.

فقررت أن تُحيل حديقتها الخلفية إلى مزرعة للخضروات والفواكه العضوية. ثم أطلقت مؤسسة خيراً، رغم أنها لا تملك مالاً، وتفاجأت بانخراط أكثر من مئتي متطوع من أبناء وفتيات الحي لمساعدتها في زراعة الفواكه والخضروات العضوية ثم يبيعونها في السوق بنصف السعر.

كبرت جهود إيمونز وبدأ رجال الأعمال والمؤسسات يتبرعون لها بأراض ٍزراعية، ثم أطلقت ورش عمل أسبوعية عن كيفية زراعة الخضروات والفواكه وكيف تُطبخ بشكل صحي. واليوم تطمح إيمونز أن توسّع مؤسستها الخيرية لتشمل مركزاً تعليمياً لتوعية أفراد المجتمع كيف يعيشون حياة صحية دون تكلفة.

ثم شاهدتُ مقطعاً على يوتيوب لشاب كان يمشي في الشارع فرأى رجلاً يُحاول تبديل إطارات سيارته المثقوب. هرع الفتى دون تردد لمساعدة الرجل، وبينما هو يعمل شكره الرجل وقال له إن أحداً لم يتوقف لمساعدته لأنه مسلم..

ويبدو أنهم قد عرفوا ذلك من قُبّعته التي يلبسها المسلمون في أميركا للصلاة. تعاطف الفتى مع الرجل وقال له بأن الناس معتوهون ولا ذنب للمسلمين في الصورة النمطية المُشاعة عنهم، وما ذلك إلا دليل على فشل المجتمع. حاول الرجل أن يعطي الفتى مالاً مقابل عمله فرفض وقال له إنه يقوم بذلك لنشر المحبة فقط.

وبينما هو منهمك بتبديل الإطار، خرج من المحل الذي كان خلفه مُقدم برامج مشهور مع طاقم تصوير وقال للفتى بأن هذه تمثيلية أرادوا من خلالها ملاحظة ردود أفعال الناس، ثم سأله عن سبب مساعدته للرجل، فقال: “أحب أن أنشر المحبة بين البشر، ولو كان باستطاعتي مساعدة أحدهم فسأقوم بذلك على الفور”.

تذكرتُ هاتين القصتين عندما رأيتُ سيارة عالقة في الصحراء. وليس من عادتي، وأنا أقود سيارتي في الرمال، أن أتجاهل من أراه في حاجة، ولكن لأن السيارة كانت على طريق يرتاده الناس كثيراً، ولأنني كنت مستعجلاً وأريد الوصول إلى وجتهي قبل أن تغيب الشمس، فقلتُ في نفسي بأن هناك من سيأتي لجرّ السيارة.

ولكنني عندما تذكرت إيمونز والفتى قلتُ : “ولم لا أعود وأنشر المحبة”. عدتُ وسحبتُ السيارة. شعرت حينها، على رغم بساطة المساعدة التي قدمتُها، بأنني قمت بشيء عظيم. لقد كانت ضحكات الفتيان وهم يلوحون لي بأيديهم من بعيد أجمل شيء حققته منذ مدة.

ننسى أحياناً أن السعادة تختبئ في أبسط تفاصيل الحياة، وبعض الأعمال الصغيرة يكون لها أثرٌ كبير على أرواحنا المُتْعَبة من المدنية ومن الصراع ومن الجري خلف المادة والأحلام والطموحات.

يقول الشيخ العلامة عبد الله بن بيّه إن الأب يسأل ابنه عن الصلاة، والخطيب يحض الناس على العبادات، ولكن من يحضّنا على الحُب؟! رغم أنه لا يقل في مكانته عن كثير من العبادات، حيث يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ”

والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا…” فربط الإيمان بالحُب! وأتساءل: كيف أهملنا هذا الجانب الوجودي في ديننا، واكتفينا بممارسة الشعائر، التي غالباً ما نقوم بها دون أن نستشعر حلاوتها؟! إنه الجفاء يا أصدقائي، جفاء المعنى، وجفاء القصد، وبالتالي جفاء الروح.

اسأل نفسك الآن: كم حياة غيّرت؟ كم نفساً أنقذت؟ كم همّا فرّجت؟ كم ابتسامة صنعت؟ كم فرحة كنتَ أنت سببها؟ توقف واسأل نفسك الآن لتعرف قيمتها. لا تخدع نفسك وتقنعها بأن الدراهم التي ترميها في صندوق التبرعات وأنت خارج من البقالة تكفي، فالمال وحده لا يصفّي القلوب، بل إن المال الذي نقدمه لنرفع الحرج الداخلي بيننا وبين أنفسنا يكون تافهاً جداً.

توقف الآن، وأنت على عتبات عام جديد، عن تسطيح فكرة العطاء ولا تحصرها في المال، وأعطِ الناس والأشياء والحياة شيئاً من روحك حتى تُنقّيها، وحتى تترك العالم خلفك أفضل مما كان عليه عندما أتيتَ إليه. قررتُ أن تكون خطتي للعام الجديد أن أساهم في نشر المحبة والتسامح والسلام، في داخلي أولاً، ثم من حولي.

المصدر: البيان