د. السيد ولد أباه
د. السيد ولد أباه
كاتب وأستاذ جامعي موريتاني، له كتب ودراسات عديدة منشورة في ميادين الفلسفة المعاصرة وإشكالات التحول الديمقراطي.

جولن وأردوغان: إسلام المجتمع وإسلام الدولة

آراء

أردوغان رئيس الحكومة التركي خاطب شركاءه الأوروبيين في بروكسل بالقول إنه لن يتراجع عن «تطهير» مؤسسة القضاء وإعادة بنائها، بعد أن تحولت إلى بؤرة للفساد والتآمر بعد تصفية المؤسسة العسكرية التي كانت طيلة تاريخ تركيا الحديثة العائق الأكبر أمام التحول الديمقراطي.

أردوغان أضاف إلى الشرطة والقضاء والجيش جماعة «الخدمة»، التي أسسها الداعية الصوفي المقيم في أميركا «فتح الله جولن» التي اتهمها بالوقوف وراء التحقيقات الأمنية والقضائية التي استهدفت عناصر من محيطه العائلي الخاص وبعض أعضاء حكومته في سياق الكشف عن فضائح فساد تركت أثراً سلبياً متفاقماً على صورة تركيا ونموذجها الذي كان يقدم مثالاً للاحتذاء في العالم الإسلامي.

إذا كانت الأجهزة العسكرية والأمنية والقضائية شكلت تاريخياً دعامة العلمانية الأتاتوركية وطالما اصطدمت بتيارات الإسلام السياسي في نسخها السابقة (الأربكانية)، فإن جماعة “جولن” كانت تعتبر الذراع التربوية والدعوية لحزب “العدالة والتنمية”، الذي تميز عن الأحزاب الإسلامية السابقة بانفتاحه على نخب الأناضول المحافظة، التي هي القاعدة الصلبة للجماعة.

ومع أن الجماعة لم تكن منذ نشأتها قريبة من مشروع الإسلام السياسي، بل كانت أقرب للأحزاب الليبرالية المحافظة التقليدية (وعلى الأخص من رئيس الوزراء الأسبق تورجوت أوزال)، إلا أنها تحالفت موضوعياً مع أردوغان وصوتت قاعدتها العريضة لحزبه، وتمتعت بهامش واسع للحركة في عهده، بيد أنها لم تخف امتعاضها في السنوات الأخيرة من تنامي هيمنة أردوغان الانفرادية على الحكم في بلد عرف طيلة مساره المعاصر صراعاً مستمراً بين الاتجاه المركزي الإدماجي القوي للدولة (الجمهورية) وحضور المجتمع الأهلي وميله لاختراق مؤسسات الدولة. من هذا المنظور شكلت دوماً الجمعيات والروابط الصوفية والروحية عماد حيوية المجتمع الأهلي منذ حركة «بديع الزمان النورسي» التي ورثتها جماعة “جولن” وطورت نمط نشاطها التنظيمي، فتحولت إلى قوة مجتمعية هائلة لا يمكن الاستهانة بها.

نشأت الجماعة منذ السبعينيات وتوسعت محلياً ودولياً منذ التسعينيات، وركزت على القطاع التربوي والتعليمي، الذي اعتبر مؤسسها أنه المفتاح الأوحد لنهضة الأمة ورقيها، بيد أنها لم تكتف بمؤسساتها التعليمية، التي تجاوزت المائة في تركيا والخمسمائة خارجها، بل سعت إلى بناء إمبراطورية مالية قوية لها غرفتها التنظيمية، وإمبراطورية إعلامية (مجموعة الزمان)، فضلاً عن روابطها وجمعياتها المختلفة. يشبه الباحثون الغربيون الجماعة بأنها مزيج فريد من الطائفة اليسوعية المسيحية في إقبالها على العلم والتعليم والبروتستانتية في نشاطها الإنتاجي العملي واختراقها الكثيف لمختلف دوائر المجتمع.

يعرف عن “جولن” نفوره الشديد من أدلجة الإسلام وتسييسه، معتبراً أنه دعوة أخلاقية وروحية وفلسفة للتعايش السلمي والتعاون بين البشر وخدمة الناس، ومن ثم فإن مجال فاعليته هو المجتمع وليس الدولة، وبقدر ما يصلح الفرد والأسرة وتتقوى اللحمة الاجتماعية تتقلص الحاجة إلى تدخل السلطة المركزية الضابطة للشأن العام.

من هذا المنظور يرفض “جولن” مبدأ معارضة الأنظمة السياسية والاحتجاج عليها ويرى أن دور الجماعة هو تقديم البدائل المجتمعية العملية لا الانخراط في صراع القوة والنفوذ الذي لا يخلو من نوازع النفس الأنانية والنفعية. يستند “جولن” في فلسفته السياسية لقراءته الصوفية الذوقية للعهد النبوي وتجربة الخلافة الراشدة، معتبراً أن هذه المرحلة المبكرة في تاريخ الإسلام قامت على الروحانية الصادقة، وقيم الإخلاص والإيثار وخدمة الناس التي هي القيم الدافعة لجماعته.

ومع أن الجماعة لم تبادر بالصراع مع أردوغان، إلا أن رجل تركيا القوي بدأ يستشعر خطر «الخدمة» – الاسم التركي للجماعة- التي انتمى إليها الكثير من كوادر الدولة العليا، خصوصا في القضاء والأمن حتى لو كان هذا الانتماء لا تترتب عليه نتائج سياسية مباشرة، بل يعتقد أن جناحاً مهماً من حزب «العدالة والتنمية» قريب من الجماعة قد يكون على رأسه رئيس الجمهورية «عبدالله جول» الذي تزايدت الخلافات العلنية بينه وشريكه في الحكم أردوغان.

اندلع الصراع في الصيف الماضي بإعلان الحكومة عزمها إغلاق المدارس التحضيرية للجامعات (الدرشان)، التي أنشأتها الجماعة، وهي مدارس علمية ذات مستوى رفيع ولها عوائد مالية كبيرة، مما يعني أن استهدافها يشكل تصعيداً خطيراً في صراع بدا ينتقل بقوة إلى وسائل الإعلام المحلية.

يتعين التنبيه هنا إلى أن صراع أردوغان مع جماعة “جولن” يندرج في سياق شديد الحساسية بالنسبة لحاكم تركيا القوي الذي تمنعه نصوص حزبه من الترشح لدورة جديدة في انتخابات 2015، وإذا كان قد أظهر في مناسبات سابقة عزمه تغيير النظام الدستوري نحو النموذج الرئاسي القوي، إلا أن عوائق كثيرة تحول دون تحقيق طموحه الذي تواجهه قوى سياسية شديدة التنوع من بينها جناح مكين من الحزب الحاكم الذي عرف استقالات متتالية منذ دخول أردوغان في المواجهة مع جماعة «الخدمة».

تضاف إلى هذه الأزمة السياسية بوادر أزمة اقتصادية ناتجة عن اكتشاف حجم الفساد الذي شاب «المعجزة التركية» التي قامت – من بين عوامل أخرى – على جذب الاستثمارات المتدفقة من مناطق التأزم الإقليمي مما عكسته الملفات التي تورط فيها رجل الأعمال الإيراني الشاب “زنجاني” مع العديد من رجالات الدولة وأفراد عائلاتهم.

انتصر أردوغان في صراعاته السياسية السابقة مع المؤسسة العسكرية القوية التي قلم أظافرها وأفقدها أي تأثير في الحلبة السياسية، كما انتصر على الانفصاليين الأكراد الذين أوقفوا العمل العسكري، وهزم خصومه السياسيين حتى انفرد بمركز القرار، لكنه يواجه اليوم نمطا آخر من الخصوم يقاسمه المظلة الدينية، وأن منطلقات مغايرة تركز على البعد الروحي الصوفي وقيم الحلم والصبر. “جولن” الذي يتخذ مولانا جلال الدين الرومي شيخاً له لا شك أنه يردد قولته الشهيرة: “العاشق لا يعرف اليأس… وللقلب المغرم كل الأشياء ممكنة”.

المصدر: الاتحاد