أحمد العيسى
أحمد العيسى
وزير التعليم بالمملكة العربية السعودية

خمس قضايا كبرى تنتظر المدرسة العقلانية

آراء

أشرت في المقالة السابقة إلى أن المدرسة العقلانية الجديدة تدرك أن أمور الغيب وما يندرج في باب العقيدة ليست في نطاق إمكانات العقل البشري، فالمدارس الفلسفية التي حاولت استكشاف أمور الغيب من طريق المنطق أو العلم التجريبي أو من استخدام ما يسمى بالإلهام أو الأساطير أو السحر وغيرها من الوسائل، لم تصل إلى إجابات يطمئن لها الإنسان «العاقل»، ولهذا كان لزاماً للعقل البشري أن يطمئن إلى ما جاء به الوحي الإلهي، وهو في عقيدتنا الكتاب الخاتم القرآن الكريم والسنة الصحيحة. وإذا كنا نحن المسلمين نؤمن بصحيح العقيدة ونعتبرها ركناً أساساً للنجاة يوم القيامة، فإننا في الوقت نفسه نحترم عقائد الآخرين، انطلاقاً من تعاليم القرآن والسنة ذاتها التي احترمت حرية الإنسان في اختيار معتقده، بل اعتبرت أن الحرية هي شرط الحساب يوم الدين، وامتثالاً لقول الله تعالى: «وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

وفي الإطار نفسه، فإن المدرسة العقلانية الجديدة تدرك أيضاً أن ما يندرج في باب العبادات كالصلاة والصيام والزكاة والحج والعبادات الأخرى التي يتقرب بها العبد إلى ربه، هي أيضاً ليست في مجال تبرير العقل البشري وتأويله لأسباب وجوبها ولا لكيفية أدائها، فلا يمكن أن نبرر لماذا فرضت الصلاة بهذا الشكل؟ ولا لماذا يُؤدى الحج بهذا الشكل؟ أو لماذا نصوم في النهار وليس في الليل؟ أو لماذا تؤدى الزكاة للعاملين عليها؟ وهكذا.

إذاً، ما القضايا التي يمكن للعقل البشري أن يجتهد في فهمها ومن ثم يقدم حلولاً تناسب واقع الحياة المعاصرة وتعقيداتها ومتغيراتها؟ في تقديري أن هناك خمس قضايا كبرى تحتاج إلى مدرسة عقلانية جديدة، تتجاوز فيها بالفكر والتحليل والتأويل كل صور الفكر السلفي القديم منه والصدى الحديث إليه. وأول هذه القضايا ما يرتبط بقضية الحكم والسياسة، فبسبب أن نصوص الدين لم تحسم قضية كبرى مثل هذه، بل جعلتها ميداناً لاجتهادات العقل البشري وظروف الحياة وتطور المجتمعات، فإن المدرسة العقلانية تستطيع تقديم رؤى وأفكار وحلول جديدة لمسألة الحكم، تتوافق مع التطورات التي حدثت في الفكر البشري حول شكل الدولة الحديثة ومهماتها ومؤسساتها، وتتجاوز جمود الفكر السلفي الذي توقف عند استنتاجات الماوردي أو أبي يعلى الفراء في الأحكام السلطانية، أو ابن تيمية في السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية. لقد تطورت المجتمعات البشرية في هذا الباب تطوراً مذهلاً ومختلفاً عن الصورة البسيطة التي كانت سائدة في تلك العصور الإسلامية الأولى، فحكم الفرد أصبح عبئاً واستبدادياً، ونموذج الشورى غير الملزِمة لم يعد مقنعاً في مقابل الديموقراطيات العريقة والبرلمانات الرشيدة، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم لم تعد كما كانت في السابق علاقة سمع وطاعة، بل هي علاقة شراكة ومحاسبة ومسؤولية.

أما القضية الكبرى الثانية، فهي ترتبط بقضايا الحريات والحقوق، فالحضارة الإنسانية المعاصرة تقدمت كثيراً في هذا المجال، ولم تعد المسألة رهينة لسياسة وسيادة وقوانين الدول وخصوصية الثقافات، بل أصبحت قضية عالمية لها مؤسساتها الملزمة ومواثيقها المعلنة. ولهذا، فإن قصور الفقه السلفي عن تبني قضية الحرية وعدم تفهم الأبعاد الدولية لحقوق الإنسان، وعدم الاعتراف الواضح بقيم حرية الفرد وسيادة القانون وصيانة الحقوق والمساواة بين البشر صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، أبيضهم وأسودهم، أدى إلى بروز الخطاب الطائفي، وانتشار أمراض الإقصاء والتكفير والتصنيف، وضيقت الحريات على المرأة، وانتهكت حقوقها، وامتهنت حقوق العمال والأقليات من غير المسلمين. وبالتالي، فإن المدرسة العقلانية ستعيد النظر في المسلمات كافة التي سادت، بسبب قصور الاجتهاد في الفكر السلفي المعاصر، وتنطلق إلى آفاق تأصيل الحقوق العامة والدفاع عن حريات الناس وخصوصياتهم، وتطالب بقوانين واضحة، لتنظيم العلاقة بين حرية الفرد ومسؤولياته وحقوق الآخرين.

وتأتي القضية الثالثة، في باب التعايش مع حضارات العالم وثقافاته، فقد أمسينا وأصبحنا ونحن نكفر هذا المجتمع، ونزدري المجتمع الآخر، وندعو على شعوب العالم بالهلاك، حتى أصبح المسلم يعيش في ظل اضطراب نفسي في كيف له أن يتعامل مع العالم في علاقاته السياسية والاقتصادية وفي حاجاته إلى التفاعل مع الآخرين علمياً وثقافياً واجتماعياً، وهو محاصر بفتاوى الخصوصية المزعومة وفتاوى الكراهية والتكفير والإقصاء.

ولهذا، فإن المدرسة العقلانية تستطيع ردم هذه الفجوة وتقديم النموذج الإسلامي الحضاري العقلاني الذي يبني ولا يهدم، يؤلف بين القلوب، ولا ينفر بينها، يتعاون على البر والتقوى مع كل من يحب الخير والنماء للإنسانية وفي كل مكان ومن أي جنس كان.

أما القضية الرابعة، فهي ترتبط بعلاقة منهج العلوم التجريبية بالدين، فكما أن للدين مجاله ومصادره الخاصة في استنباط الأحكام، فإن لعالم المحسوس والمعقول مناهج لتعلمها، وفهم العلاقات بينها وطرق للتوصل إلى أحكام، تتفق مع نظريات علمية توصل إليها العقل من خلال المنطق والتحليل والتجربة والبرهان. ولهذا، فإن إقحام النص الديني الذي لم يأخذ صفة قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، للمصادمة مع نتائج علمية توصل إليه العقل باستخدام مناهج البحث العلمي، هي معركة خاسرة لكلا الطرفين. فعلوم الطبيعة كالكيمياء والأحياء والفيزياء والفلك والطب والهندسة والعلوم الاجتماعية والإنسانية، تقدمت مناهجها وتطورت أساليب التحقق من صحة نظرياتها وصدقية نتائجها. ولهذا، فإن المدرسة العقلانية تدرك أن لحاق المسلمين بركب حضارة العلم والتصنيع والاستكشاف، تحتاج إلى إطلاق ملكات العقل المسلم في التفكير والنقد والبحث والتأمل والتجريب، ليمكنه من خدمة البشرية، ولتعزيز حضوره في الحضارة الإنسانية.

أما القضية الخامسة والأخيرة، فهي قضية التنمية البشرية بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والتنظيمية، فواقع المسلمين اليوم يشير إلى أن انشغال الفكر السلفي بقضايا هامشية، والتوجس الفطري من التطور الاجتماعي والانفتاح الاقتصادي، وتعظيم مبدأ سد الذرائع، كل ذلك أدى إلى إشاعة مناخ الخوف والحذر والتردد والاشتباه بكل جديد، ما أعاق مشاريع إصلاح التعليم وإصلاح الأنظمة والقوانين وغياب مؤسسات الثقافة، فنشأ بسبب ذلك تناقض واضح في حياة الإنسان بين عالم خاص وعالم عام، بين حواجز ترتفع أسوارها يوماً بعد يوم بين ما يشعر به الفرد من طموح وآمال، وما يصرح به، ويتعامل من خلاله مع العالم الخارجي.

تلك قضايا أساسية تنتظر أن تواجهها المدرسة العقلانية في المستقبل بكل مسؤولية، فتسعى إلى فهم أسبابها وتعقيداتها، ثم تبحث عن الحلول المنطقية التي تتوافق مع مقاصد الشرع الحنيف، وتتناسب مع حاجات الإنسان المعاصر بكل طموحاته وتناقضاته وآماله وآلامه.

المصدر: صحيفة الحياة