علي القاسمي
علي القاسمي
كاتب سعودي

رحيلٌ «مُر» ومبكر.. يا صديقي !

آراء

ليس من الطبيعي أن تذهب لفكرة ما وأنت في حضرة فقدٍ يفتك بالروح، وليس ثمة حزن يسرق منك تفاصيلك الحية سوى موت فاجع صادم لم تفكر فيه بعد أو تتخيله، مساء البارحة اختار الموت أخاً كبيراً وصديقاً فاخراً، أخذ نقاءً يتباهى به أهلي، وطيبة تحسد عليها جغرافيتي الصغيرة، غيب عنا كاتب المقال الألمعي النقي محمد علي البريدي، فغابت تراتيله الوطنية والحكايات التي كان ينسجها بالبياض والجمال على ورق الورد، غادر الموت بقلم بديع لا يشبهه قلم، غادر بمن يصف الزمن الجميل بأنه: قرى لا تتعفن صباحاتها – سباتا – حتى العاشرة، ولا تعرف التململ في الفراش بعد طلوع الشمس، الزمن الجميل: عجاج الموافي، ورائحة الخمير، والتهليل الذي لا ينقطع حتى ينهمر المطر، ثم يبوح: «جاث على سجادة الصلاة أتأمل طقوس الفانية، ووقع ارتطام العاصمة، أحزان العالم تزيدني يقيناً بأن السجود لله هو الحل لكل الجرح، لكننا لم نعد نسجد خاشعين بشكل جيد كما تقول جدتي، ملهمتي ومعلمتي».

نعم.. أنا هنا أترك له المساحة لأعيده لقارئ لم يعرفه جيداً، وإن كان في إعادتي له بعد الموت خجل قاهر وقصور يغرقني من الرأس للقدمين لكنا عشنا ونحن لا ندقق جيداً في شموخ أهلنا إلا بعد رحيلهم لأننا حفظنا «إذا أردت أن تعرف قيمة إنسان ما.. دعه يغيب»، أبو مازن علمني وعلم جيلي الذي يقترب منه في السن أن الكتابة فعل شاق وشاهق، درسني بصمت أن اللغة الفارهة والآسرة لا يجيدها أي أحد، قال لي ذات بوح: «كن بسيطاً، كن نبيلاً، كن شهماً، وضع ما بقي على رب كريم»، محمد البريدي ابن رجال ألمع البار والفطري حد الدهشة والحب الغارق في الصدق، بكيته كما لم أبكِ أحداً من قبله لأنه نادر الحدوث في مجتمعات لا تؤمن بالندرة إلا في زوايا ضيقة وشكليات مقيتة، أكتب والحروف لا تستوي على الخط مطلقاً، أكتب ورحيله الهزيمة الأكبر لي في منعطف النضج، يا محمد أوجعتني حين قلت: الموت المفاجئ يصيبنا بالانهيار لكن رحمة الله تهبنا صبراً جميلاً وثقتنا بما عنده من فضل تعزينا في أحبابنا، آه وهي لا تكفي، موتك لم يخفني أنه سحقني بحق، فأنت على رغم المرارات لم تنحنِ ولم تشتكِ، ولو علمت أنك سترحل مبكراً وتموت كل المواعيد التي ضربناها ذات أمل لما أضعت ربع فرصة كان القدر يجمعني فيها معك، أبو مازن أسمعك الآن جيداً.. أنصت لتراتيلك.. وأستعيد كثيراً من الكلمات التي كنت تقولها عن حب ونبل.. فمن أين لي بمثلها؟ علمتني حقاً من دون أن تعلم لسموك عن ذلك، منحتني مؤونة عمر من أوكسجين النصوص والكلمات والحروف الضاربة في العمق والجاذبة للنبض وفوقها شيمة وتسامحاً وهدوءاً ثقيلاً لا يجيده سواك، نسيت فقط أن تعلمني: أن وداعك مرير جداً جداً، فاجعة رحيلك ليست للوصف فلم أتخيل منذ لحظة المطالعة الأخيرة قبل ليليتين أني لن أشاهدك مرة أخرى.. يا لخداع التخيل.. رحمك الله. إلى جنة الخلد يا صديقي.

المصدر: صحيفة الحياة