رسالة ناصر العمر لأردوغان.. دروس وعبر

آراء

من غرائب محاولة الانقلاب في تركيا – وكله غرائب – أنها كشفت عن حال استقطاب شديدة، بين مؤيد ورافض، جميعهم متطرفون، بينهما برزخ لا يلتقيان! في التاريخ المعاصر، تبقى جدلية الحق والباطل في المواقف السياسية هي الأوسع حضوراً بين جنبات النقاش، فلا تكاد تخلو حقبة زمنية من أصوات تعلو فوق جميع الأصوات، لقيادات جعلت من نفسها المخلص الأوحد، من عبدالناصر والناصريين، وأعناق الرجال، بل وأرواحهم، تنساق خلف بريق الكلمات الرنانة وكاريزما الخطب، حتى إذا انقشع سراب كان يحسبه الظمآن ماء، فإذا بالأحلام تتحطم على قارعة الأماني بعد أن غيبتها مواقف السياسيين التي لا ترحم في سبيل مصالحها. لكن شقاء الإنسان لا يلبث أن ينكأ جرح الفشل من جديد، في رحلة بحثه المضنية عن ملهم آخر، ودائماً من خارج أسوار الوطن من دون أن يستفيد من التجربة، وفي رحلة لا تنتهي مع جنون تكرار الخيبات.

الشيء الذي لفتني وأنا أتابع تداعيات ما حدث، هو تلك الرسالة القوية في ما تحمله بين سطورها من مضامين، والتي وجهها الداعية الدكتور ناصر العمر عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وجاء نصها على النحو التالي: «إلى أردوغان! من أعظم الشكر على هذا النصر أن تسعوا لأسلمة أنظمة بلادكم، ونبذ القوانين العلمانية (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)»، انتهت الرسالة. في الواقع، أختلف مع الدكتور العمر في كثير من مواقفه «السياسية»، لكنني اليوم أقف احتراماً لمثل صراحته وجرأته على تقرير ما يعتقد صوابه، فمن قرأ سيرته لا يستطيع أن يتجاوز مرحلة الصراع الفكري بينه وبين الدكتور غازي القصيبي رحمه الله، تلك المرحلة التي كان رمي المخالف بالعلمنة أسهل عند الإسلاميين من شرب الماء، قبل أن تستبدل بالليبرالية بعد صعود نجم حكم الإسلاميين في تركيا، الدولة التي ينص دستورها على علمانيتها، ويوصي رأس هرمها الرئيس أردوغان الجميع في انتهاجها وجعلها أساساً يُرتكز عليه، ولعلها كانت وصيته الأبرز إبان زيارته إلى مصر أثناء سيطرة حكومة الإخوان عليها. في رسالة الدكتور العمر، هناك مضامين عدة يمكن استخلاصها منها، ولعل أهمها هو حكمه بكفر النظام الحالي هناك، على رغم جميع المظاهر الدينية التي استجدت على الداخل التركي في ظل حكومة العدالة والتنمية ذات المرجعية الإخوانية، وأيضاً على رغم قسوة الدعوات التي تتصف بالحدة في غالب الأحيان من بعض الدعاة الذين تبرعوا بتعاليمها بين مجتمعاتنا من تلقاء أنفسهم، حتى أن المراقب ليظن بأن المجتمع «المناصر» أصبح أكثر جهوزية واستعداداً إلى تقبل فكرة تطبيق العلمانية من أي وقت مضى! في الجهة المقابلة، كان رد الفعل التركي قاسياً جداً، وبالنسبة لي فإنه يحترم، وليس من المبالغة القول بأنه يعد درساً من دروس الوطنية يجب أن يحتذى، فإن الوطن ورموزه التي تدير دفته ينبغي ألا يتم التسامح أو التساهل في المساس بهم في الظروف كافة، وبأي شكل من الأشكال، في السراء أو الضراء، في رغد العيش أو ضنكه، فهم صمام أمان الدول وبواعث استقرارها، حتى ولو من خلال نصيحة ظاهرها وباطنها الإخلاص.

في الختام، لا يفوتني تهنئة الذين خرجوا في الشارع التركي من شتى أطيافه دفاعاً عن دستور بلادهم، يذودون عنه بأجسادهم على رغم جهالة الموقف والعواقب، بنجاح مساعيهم الرامية إلى وطن يحترم مبادئه واختياراته. كما لا أرغب أن يفوتني التنويه هنا ولو بعجالة عن إعجابي منقطع النظير بسياسات الرئيس أردوغان في ما يختص بدولته، التي قفزت معه قفزات تنموية وسياسية لا ينكرها إلا مكابر، فأردوغان وفي سبيل تركيا، وتركيا فقط، لم يتوقف عند حدود الممكن، بل إنه أثبت للجميع تلك الفكرة التي طالما تم ترديدها عن أنه ليس في السياسة مستحيل، فالحكومة الإسلامية طبعت علاقاتها في شكل تام مع الإسرائيليين، وأغلقت ملفاتها الشائكة مع الروس، وبحسب تصريحات رئيس وزرائها فإنها تسعى اليوم إلى إعادة مياه العلاقات مع السوريين إلى مجاريها السابقة، على رغم سنوات الجفوة «الخداعات»

المصدر: الحياة