فهد الدغيثر
فهد الدغيثر
كاتب سعودي

سعودية_تنظف_زجاج_المحل

آراء

هذا الوسم ظهر في مطلع الأسبوع الماضي في «تويتر». قصته تتمثل بوضع أحد المغردين صورة لفتاة سعودية تعمل – كما يبدو – في متجر داخل مجمع تجاري، وقد وقفت بعباءتها ونقابها أمام «فاترينة» المحل لتنظفها. واضح أن هذه الفتاة بائعة وما تقوم به في متجر صغير هو جزء من التسويق، فنظافة «الفاترينة» تعبِّر عن احترام المتجر لزبائنه. لكن الصورة أثارت بعضهم، كما اتضح، وبدأوا بالنيل من الوطن ووزير العمل، وتوغلوا كثيراً في التأويلات إلى حد العفة والشرف وامتهان المرأة، ووصلوا إلى توزيع الثروة إلى آخر تلك الإسطوانة الرديئة. في «تويتر» – وإضافةً إلى بعض البسطاء المتحمسين – لا يمكن أن نغفل عن وجود حركيين، سواء من بقايا فلول «الصحوة» أم ذلك «الخريف» العربي المشرذم، وهؤلاء لا يمكن أن يفوِّتوا مثل هذه الفرصة، كما فعلوا في وسم «الراتب لا يكفيني».

أهداف هؤلاء بالطبع ليست المحافظة على الفتاة وعفتها، بل النيل من الحكومة. لو أن عمل هذا الفتاة- وهو عمل شريف لا غبار عليه – هو المشكلة، فلماذا صمتوا إذاً أمام مهزلة «المسيار» التي ليس بها إلا النيل الجنسي من المرأة بعد أن يُرغِموها على التنازل عن حقوقها كاملة كزوجة؟ ولماذا صمتوا عن المرأة التي تفترش الرصيف وتجلس تحت أقدام المارة لتبيع المكسرات في لهيب الشمس، وعندما تحدثنا عن السماح لها بالبيع داخل محل خاص لها اعترضوا؟

قررتُ الدخول في الحوار ووضعت هذه التغريدات دفاعاً عن تلك الفتاة، قلت: «عندما كنت مساعداً لمدير فرع، نظفت الأرض في (سوق بنده) في كل مرة ينسكب عليها سائل. ما المشكلة؟ أشعر أنه واجب» وفي الأخرى قلت: «في دولة عدد سكانها 22 مليون مواطن، لا مفر من توزيع القوى العاملة على جميع خدمات الصيانة. يستحيل أن ننتقي ما نريد». وجدت الكثير من المؤيدين للطرح وعدد من المعارضين. الفئة الأخيرة التي أشرت إليها قبل قليل تتحدث عن حلول سرابية مثل صرف رواتب من الدولة للنساء، في مقابل بقائهن في بيوتهن. بعضهم أهلكني بذلك الرد المعلَّب الذي ظهر مع ظهور خطاب الصحوة قبل أربعة عقود وهو: «هل ترضاها لأختك»؟ ويقصدون بذلك هل تقبل أن تعمل ابنتك أو أختك بهذا العمل، وكأننا نتحدث عن «فتاة ليل» تقف في الشارع وتنتظر الزبائن، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هناك من يظن أن مثل هذه الوظائف محرمة في بلد لديه تريليونا ريال احتياطات نقدية، ونسي أن اليابان وألمانيا والكثير من دول الـ20 أغنى من المملكة، وأفرادها يعملون بكل الوظائف.

استذكرتُ الماضي الجميل عندما كنت طفلاً أتحدثُ إلى مسؤول مزرعتنا في حائل عن عمله قبل أن يأتي إلينا. قال لي وقتها إنه كان يعمل في «أرامكو» في الظهران. هذا الرجل أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، ولهذا تعجبتُ فألححت عليه أن أعرف طبيعة عمله، فقال لي: إنه كان يهتم بمكتب المهندس، بمعنى أكثر وضوحاً عامل نظافة. لكنه – وهو راعي الغنم الأميِّ – تعلم من خلال هذه المهنة الانضباط واحترام الوقت، ووجد فيه الوالد – رحمه الله – القدرة على إدارة تلك المزرعة. وقد أبدع فعلاً، واتسعت المساحات المزروعة فزاد إنتاجها وارتفع دخله وتحسنت حالته، ثم تذكرت كم كنت شغوفاً في ذلك الوقت لإيصال المنتجات إلى سوق الخضار في حايل بنفسي. ربما بسبب شغفي إلى قيادة السيارة «(القلاب). المهم أنني لم أجد عيباً في إنزال المحاصيل من على ظهر الشاحنة إلى البائعين، وهذه مهنة العمال، حتى بعد التخرج من «الثانوية»، وفي الولايات المتحدة الأميركية أثناء الغربة وقلة الحيلة في بعض الأوقات عملت في مهن بسيطة عدة جداً، ولم أجد من يعيبني، بل كنت أحظى بالاحترام من أصدقائي هناك.

لعلكم تعرفون «مارثا ستيوارت»، وهي المصممة الأميركية الشهيرة في لوازم المنازل وترتيب الحفلات. هذه المرأة بدأت مربيةَ أطفال لدى البيوت أو ما تسمى «بيبي سيتر»، وبسبب عملها هذا تطورت لديها موهبة جديدة، وهي تصميم حفلات أعياد الميلاد لهؤلاء الأطفال، وهو ما دفعها – فيما بعدُ إضافة إلى هذا العمل – إلى العرض والطهي، وها هي اليوم تملك اسماً تجارياً كبيراً بين المؤسسات التجارية المعنية بالمنزل والمطبخ. القيمة السوقية للشركة التي تحمل اسمها في السوق الأميركية اليوم تتجاوز 220 مليون دولار. هل ازدراها أحد هناك وهي في بداياتها كانت تتنقل بين بيوت الأسر الغنية لترعى الأطفال في غياب أمهاتهم في أعمالهن؟ أما «سام وولتون» مؤسس إمبراطورية «وول مارت» العملاقة فبدأ صبياً ينقل الملابس من المخازن إلى المتاجر، وربما نظّف زجاج المحل، ثم بدأ يبيع بنفسه، وانتهى به الأمر إلى ما وصلت إليه شركته اليوم التي تبلغ قيمتها السوقية 250 بليون دولار أميركي. ومثل هذه القصص لا تغيب عن بلادنا أيضاً. دونكم الأستاذ عبدالرحمن الجريسي الذي بدأ صبياً في محل في شارع الوزير قبل أن يتحول إلى إمبراطور في المال والأعمال، والمرحوم سليمان العليان وغيرهما الكثير.

الذي أراه أمامي هنا أن هذه الفتاة وفي عيون رب العمل سيصبح لها شأن كبير. ما أتمناه هو أن أراها بعد استيعاب التجارب والخبرة مالكة لأكبر المتاجر المهتمة للوازم النسائية في المملكة. لِمَ لا وهي تملك هذا الحس الجميل والمسؤولية الكبيرة في إنجاح عملها في بيئة حساسة مثل بيئتنا؟ هذه هي البدايات وليست الاتكاء على مقولات المفلسين ممن لم تتسخ أيديهم قطُّ في تأدية أي مهنة.

من أبلغ ما قرأت في هذا الحوار إضافةٌ وضعها المغرِّد مسفر المطيري بأسلوب عفوي مباشر، تقول: «إلى متى شعب ركد على (عطني) يريدون (بزبوز) نفط لكل بيت؟ اكدح، ناضل، جاهد، اصبر، حتى تصل إلى أعلى الدرجات. كُفُّوا عن التطنز». وهو محق، فقطاع الخدمات في أغنى الدول الصناعية العالمية يوظف نحو 70 في المئة من القوى العاملة، بينما لا تشكل الصناعة إلا 20 في المئة والزراعة 10 في المئة. لكم أن تتخيلوا الوضع لدينا في غياب القطاع الزراعي عن المعادلة، وفي تكدس الحكومة بعدد الموظفين والموظفات. أما أطرف التعليقات فأتت من مغرد قال لي بعد أن أعياه المنطق: «اقطع واخس» لكنه لم يتوقف هنا فقد استمر في مطالبته لي بالرد وإكمال الحوار. منتهى الطموح والثقة بالنفس.

واضح من أي مهتم تابعَ هذا الوسم أن ثقافة العمل غائبة لدينا، وأننا في أمسِّ الحاجة إلى بناء الرموز التي يمكن وضعها نماذج، لتغيير الكثير من المفاهيم الخاطئة. من أهم هذه المفاهيم التي تحتاج إلى إيضاحات أن مثل هذه الوظائف هي مجرد جسر عبور لما قد يأتي بعدها. ثقافة المواطن السعودي حول الوظيفة في شكل عام – ومع بالغ الأسف – ما زالت تدور حول طبيعة الوظيفة الحكومية التي لا تتغير بسرعة في مراتبها وراتبها. الكثيرون يظنون أن هذه الفتاة ستستمر في هذه المهنة أعواماً. فالبدايات دائماً – كما أشرت في الحوار – بسيطة، لكن الشخص النبيه يؤسس عليها للمستقبل، وهذا هو الأهم. أرباب العمل في القطاع الخاص لا يمكن أن يَغفلوا عن تمييز الموظف الأمين ويبادرون كثيراً إلى ترقيته وتحسين حاله حتى قبل أن يطلب هو ذلك.

ما نحتاج إليه أكثر من أي وقت مضى – وفي ظل نمو البطالة الذي يرعبنا جميعاً وصغر الوعاء الوظيفي لدينا، وأقصد بذلك محدودية عدد الفرص المناسبة – هو الرعاية الرسمية لهؤلاء المبتدئين الكادحين. كيف نشجِّع طالبي العمل على البدء في الوظائف البسيطة، ونقنعهم بأن هذه ليست إلا بدايات؟ صغار الموظفين هم من يشكل الغالبية في معادلة القوى العاملة السعودية، بل وفي كل مكان وليس المديرين. ما الذي يمنع من تصميم جوائز تقديرية رسمية لأهم ألف أو عشرة آلاف موظف صغير في المملكة؟ لو كنتُ صاحب القرار لبدأت فوراً بتصميم جائزة الدولة لصغار الموظفين المبتدئين. سأختار من هؤلاء أفضل 100 موظف أو موظفة، وأضع لهم بليون ريال سنوياً كجوائز مادية وعينية، تُقدَّم في احتفال كبير وغير مسبوق في إستاد الملك فهد الدولي كل عام، يدعى إليه هؤلاء وأهاليهم، يتحول فيما بعد إلى عرس سنوي وطني ضخم. جرِّبوا ذلك واكتشفوا ماذا سيفعل بنا التنافس مع وجود المحفزات المعتبرة. الانخراط الحقيقي إلى سوق العمل في مجتمع محافظ كمجتمعنا يتطلب مبادرات كبيرة كهذه أو أفضل منها، بعكس الصمت والترقب والحيرة التي تدفع الكثيرين إلى التردد.

المصدر: الحياة