هالة القحطاني
هالة القحطاني
كاتبة سعودية

شجرة الأخلاق

آراء

التربية هي الدرس الذي أخفق عدد لا يستهان به من الآباء في إكماله للنهاية دون تذمر أو كلل, فبعض الأسر تترك الأمر برمته على الأم أو تلقيه على العاملة مع الأسف, والبعض الآخر يتركه للشارع وهذا الأسوأ, وهناك من يجاهد لإكمال واجبه للنهاية إلى أن يشتد عود أبنائه, ولا يتركهم إلا بعد أن يتأكد أنهم يحكمون حزام الأمان بأنفسهم في كل مرة ينطلقون في تجربة أو مغامرة جديدة في مشوار الحياة.

والتربية السليمة تنبت “شجرا من الأخلاق” إذا تساقطت أوراقها تبقى جذورها ثابتة في الأرض, ولكن لا تثمر إذا ألقيت بذورها بشكل عشوائي, بل بمشاركة مستمرة يتقاسمها الوالدان بذكاء وروية, ليعزز كل منهما دور الآخر أثناء مرحلة تأسيس المبادئ والأخلاقيات, التي من أهمها تعليم الأبناء أهمية تطوير الأخلاق ليصبح الفرد أكثر إنسانية, ويقترب ولو بجزء يسير من الأخلاق النموذجية لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام, على أن تشمل عملية التربية الجوانب الإيمانية والروحانية بعيدا عن التشدد, والحرص على التربية النفسية والاجتماعية, والتربية العلمية عمليا بقضاء وقت “غير قابل للتفريط” مع الأبناء ومتابعة دراستهم في جميع مراحلها للتأكد من استيعابهم الصحيح للمعلومات التي يلتقطونها من المدرسة وخارجها, والاستماع إلى أفكارهم وهواجسهم المتغيرة يوميا.

وعادة ما تلاحظ أثر التربية الجيدة, في كل ما يعكسه الفرد من أخلاق وسلوك في الأماكن العامة, سواء كان شخصا كامل الأهلية أو مراهقا أو طفلا. فتجد شبابا لا يتوانون عن تقديم المساعدة, وما أن تلتفت لتشكره حتى تجده توارى عن الأنظار, لأنه من الأساس تربى على الكرم والإحسان ومد يد العون كواجب ديني وأخلاقي, وفي المقابل تجد شبابا آخرين لا يتوانون عن رمي أذاهم على خلق الله دون حياء أو أدب, بل يعتبر أن هذا حقه من باب الترفيه.

وتنعدم التربية حين يستسلم الوالدان ويلقي كل منهما بمسؤوليته على الآخر, بعد أن يكون زمام الأمر قد فلت بسبب انشغال كل منهما بعالمه الخاص, ويبرر بعضهم تقصيره في تربية الأبناء, حين يبدأ ترديد عبارة “أن الأيام كفيلة بتربيتهم” ليقنعوا أنفسهم بأنهم قاموا بأدوارهم كاملة, وهم من الأساس كانوا يصدون عنه حين يسأل, ويجيبونه بعصبية وبمعلومات خاطئة حين يكرر تساؤلاته, ويتجاهلون رغباته وتغييراته الفسيولوجية والنفسية ومراحل تطوره ويجبرونه على تجاهلها أيضا, لأنهم مشغولون بأشياء أهم منه بالنسبة لهم, ليعتاد الفتى العيش بعيدا عن والديه في عزلة اجتماعية يتضخم داخلها فراغه العاطفي, فيتلمس طريقه بصعوبة بعد أن يشعر بالتيه, وتبدأ الأشياء الخارجية تؤثر عليه وتجذبه بمنتهى السهولة, لأنها تمنحه الاهتمام الذي يريد.

ويعد الإهمال العاطفي نوعا من أنواع الإساءة التي تمارس على الطفل، وهي من أهم العوامل التي تؤدي لانخفاض مفهوم الذات عنده، وتُفقده القدرة على الثقة في الآخرين وأولهم والداه، فيتملكه الاكتئاب دون أن يدرك، وتتولد داخله نزعة عدوانية وتحامل ضد الآخرين، ما إن تنضج حتى تنفجر في أول مناسبة لتتحول إلى تخريب أو عنف أو تحرش.

منذ فترة خرج لنا مقطع لا يتجاوز 40 ثانية لسائق آسيوي مع طفل لا يتجاوز ست سنوات, حيث أمسك بوجه الطفل وقبله في فمه بطريقة مقززة, فرفع الطفل يده بشكل تلقائي ليدفع رأس السائق ويمسح فمه بكل عفوية لأن براءته تمنعه من أن يفهم الجريمة وراء ذلك, لتشتعل وسائل التواصل ويسقط الرجل بيد الأمن في أقل من 24 ساعة. ومع ذلك اكتفت الجهات الأمنية بالقبض على السائق وترك الوالدين دون محاسبة ودون توجيه “تهمة الإهمال” لهم بعد أن سمحت ضمائرهم بترك طفل قاصر بيد غريب.

وحين انتشر ثاني يوم العيد مقطع التحرش الجماعي على كورنيش جدة, عادت للأذهان حادثة مجمع الظهران في الخبر, لكي تتجدد ضرورة تحديث قانون يناسب هذا العصر بلائحة تنفيذية معلنة, إذ يعد التحرش إحدى صور العنف الاجتماعي ضد المرأة الذي تضرر منه الطفل أيضا, وبما أن قانون حماية الطفل من الأذى حدد أن الطفل هو من يكون تحت سن 18 سنة, فهذا يعني أنه آن الأوان لأن تفعل الجهات الأمنية والقضائية بشكل أكبر عملية محاسبة أولياء الأمور وتحميلهم مسؤولية جنوح أبنائهم, لأن ترك القُصَّر دون رعاية أحد الوالدين أو الأقارب البالغين يعد مخالفة في حد ذاتها, إذ يجب ألا يتركوا بمفردهم لكيلا يعرضوا أنفسهم للأذى, أو يعرضوا آخرين لأذاهم, والمشكلة حين يقبض عليهم في حادثة, يتملص بعض الآباء من مسؤوليته أمام الجهات الأمنية مبررين أنهم عجزوا عن تربيتهم, أو لا يعلمون بانحرافهم أو تطرفهم!

شجرة الأخلاق لا تثمر إلا بالتربية الحسنة, فحين يترفع الإنسان عن الخوض في الخطأ والحرام بتجاهله والإعراض عنه، هذا لا يعني أنه جبان, ولكن دليل على أن والديه أجادوا تربيته لدرجة جعلته يميز الخطوط الواضحة بين الحرام والأدب، لذلك تجده يخشى الله حتى لو كان بمفرده, لأنه على بينة بأن الله تعالى يراه.

المصدر: الاقتصادية