صناعة السفن الخشبية في الإمارات.. تراث للصيد والتجارة

منوعات

يشكل التراث البحري جزءاً أصيلاً من التراث الشعبي في دولة الإمارات ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وله أهمية موازية لتراث البر والجبل والسهل، فمنذ القدم عرف سكان دولة الإمارات ركوب البحر للاتصال بالدول المجاورة للتجارة وطلب الرزق، كما عرف أبناء هذه المنطقة كيف يصنعون الوسيلة المناسبة لارتياد البحر مستخدمين الشراع للاستفادة من قوة دفع الرياح، حيث استطاع أبناء الإمارات شأنهم شأن أبناء منطقة الخليج العربي تطوير صناعة السفن وجعلها ذات أحجام كبيرة ليتمكنوا من الوصول بها شرقاً وغرباً إلى أماكن كالهند وشرق إفريقيا بغرض المتاجرة بالأخشاب والبهارات وغيرها .

ونشأت على شواطئ الدولة مهن وصناعات أهمها صناعة السفن الخشبية التي توارثها الأبناء عن الأجداد وحفظوا أسرارها وأبدعوا في صنعها فقد اشتهر في صناعة السفن عدد كبير من الرجال في جميع مناطق الدولة، حيث كانت صناعة السفن في الإمارات في البداية متخصصة في صنع السفن المتوسطة الحجم التي تستعمل لصيد الأسماك والغوص على اللؤلؤ كما هناك سفن وقوارب صغيرة تستخدم للتنقل السريع بين السفن الكبيرة والأخوار والشواطئ داخل الإمارات يطلق عليها الأهالي تسميات مختلفة مثل “الشاحوف والماشوة والهوري واللنج والشاشة” وغيرها وهذه السفن غالباً ما تستخدم للغوص في مسافات قريبة من الشاطئ وأحياناً يتنقل بها الطواويش بين سفن الغوص الكبيرة وهي في مواقع الصيد .

وازدهرت في الإمارات صناعة السفن أو القلافة كما تسمى محلياً التي تعد من أقدم المهن في الإمارات وتعد صناعة السفن من المهن الشاقة إذ يقوم بصناعة السفن العديد من الحرفيين الذين يتولون عملية النجارة وصناعة أجزاء السفينة المختلفة وصناعة الأشرعة والدقل الذي يرفع عليه الشراع ويسمى الصاري وجمعه صوار وهو قطعة من الخشب طويلة توضع وسط السفينة ويرفع عليها الفرمن وهو قطعة من الخشب يعلق فيها الشراع الذي يرفع فوق سطح السفينة ويمتد العمل من الصباح الباكر حتى مغيب الشمس وتمارس غالباً تحت أشعة الشمس أو تحت مظلة خفيفة لا تكفي لردع حرارة الجو أو رطوبته .
تقاليد متوارثة

ولصناعة السفن تقاليد وآداب تناقلتها الأجيال والأيدي التي مارست تلك المهنة الشاقة إذ يراعى في الصناعة النظافة أثناء العمل والصدقية التي تحكم العلاقات والتعاملات بين التجار والقلاليف، إضافة إلى أخذ الموازين والمقاييس في الاعتبار لضمان الحصول على منتج نهائي ذي جودة عالية إذ برع القلاليف في بناء سفن متعددة الأشكال والأنواع والمواصفات معتمدين على الخبرة المكتسبة والمتراكمة عبر السنوات وتصنف مهنة القلافة على أنها من أشد المهن صعوبة فهي مهنة شاقة تتطلب مجهوداً بدنياً كبيراً .

وفي القديم كان هناك موسم معين يزدحم فيه القلاليف بالعمل الذي يبدأ مع انتهاء موسم الغوص، حيث يهجع الغواصون الى الراحة ليبدأ عمل القلاليف فتسحب السفن إلى الشواطئ ويبدأ العمل فيها تصليحاً وترميماً أو تجديداً وحكمت علاقات صناع السفن منذ القدم تقاليد وأعرافاً محددة نظمت طرق التعامل فيما بينهم كأصحاب مهنة واحدة، كما نظمت العلاقة بين القلاف وصاحب العلاقة المزمع بناؤها وكانت أخلاق البيئة العربية هي التي تحكم هذه العلاقة فكانت الاتفاقات تتم شفاهة ومع تطور الحياة صارت تتم العقود كتابة بحضور شهود، حيث تحدد المدة التي يستغرقها بناء السفينة تبعاً لحجمها ولابد أن يبدأ القلاف عمله قبل بدء موسم الغوص بوقت كاف حتى تكون السفينة جاهزة للإبحار مع حلول موسم الغوص .

خبرات واسعة

وبفضل صناع السفن الأوائل الذين اكتسبوا مهارات وخبرات حرفية واسعة عن طريق التفاعل مع الحضارات المجاورة والسعي لاكتشاف مواد خام جديدة اكتسبت السفن العربية في المحيط الهندي خاصية استخدام شحم الحوت المعروف محلياً ب”الصل” أما النصف السفلي الغاطس في الماء فيطلى ب”النورة” وهي مادة كلسية عبارة عن مسحوق ويضاف إليها شحم الحوت والعملية تدعى ملاحياً “الشونة” بينما تسد الشقوق بين الألواح بقطن خاص يدعى “فتيل” وعمليته تدعى قلفطة أما من داخل جوف السفينة المسمى ب”الخن” فإنه يطلى بالقار وذلك منعاً لتسرب المياه للداخل وقديماً كانت هذه الألواح التي تعرف ب”الخدود” تثبت بواسطة الخياطة بحبل من ليف جوز النارجيل كنبار وذلك لقوة أليافه وتعتمد صناعة السفن على جودة الأخشاب المستخدمة فمنها خشب الساي الذي يجلب من الهند الذي يمتاز بقوة تحمله وصلاحيته لمدة طويلة .

والسفن كثيرة وأنواعها متعددة ولكنها تعمل بالشراع والمجداف وأول سفينة تم التعامل بها هي “السنبوك” ثم “الشاحوف والبقارة” ثم “الصوري والجلبوت والبتل والماشورة” وهي سفينة صغيرة توصل الأشياء إلى داخل الميناء من البوم واللنش وكلها كانت تصنع باليد والسفينة التي كانت تستعمل لصيد السمك يصنعها شخص أو شخصان حتى لا تكون المصاريف كثيرة، أما إذا كانت كبيرة وتستخدم في الغوص فيقوم بتصنيعها عشرة أفراد .

ومن أنواع السفن التي اشتهرت في الإمارات ودول الخليج العربي “البوم” التي كانت تنقل البضائع عبر موانئ الخليج العربي وموانئ الهند وشرق إفريقيا و”السنبوك” من السفن المعروفة والمشهورة في الإمارات والخليج العربي وكان يستعمل في الصيد والغوص على اللؤلؤ و”الجالبوت” من سفن الخليج العربي تستعمل في الغوص على اللؤلؤ والأسفار والصيد أحياناً و”البغلة” من السفن القديمة الكبيرة الحجم تستعمل للتنقل بين موانئ الخليج العربي والهند وكانت تستعمل في الأسفار قبل ظهور البوم و”شوعي” سفينة تستعمل للغوص على اللؤلؤ وصيد الأسماك وهناك سفن أخرى كانت تستعمل للشحن والأسفار وصيد الأسماك .

وكان لأمير البحار عن الملاح العربي الشهير أحمد بن ماجد الذي ولد في مدينة جلفار برأس الخيمة الفضل في إرساء قواعد الملاحة للعالم فقد بقيت آراؤه وأفكاره في مجال الملاحة سائدة في كل من البحر الأحمر والخليج العربي وبحر الصين حتى سنة 903 هجرية وهو أول من كتب في موضوع المرشدات البحرية الحديثة ولاتزال تقاليد بناء السفن الخشبية مستمرة في ترسانات المدن الكبرى إذ يقوم البحارة المهرة ببناء السفن بالطريقة نفسها التي اتبعها أسلافهم منذ قرون دون الحاجة الى استخدام الكمبيوتر أو المعدات الحديثة .

المصدر: وام