فهد الدغيثر
فهد الدغيثر
كاتب سعودي

عبدالرحمن الراشد.. التميّز

آراء

الذي يدفعني إلى كتابة هذا الموضوع، هو الشعور العظيم بالسعادة والفخر بنجاح قيادات سعودية للإعلام السعودي، والذي بدأ منذ ثلاثة عقود تقريباً، بتأسيس صحيفة «الشرق الأوسط» وشقيقاتها، مروراً باستحواذ المال السعودي على صحيفة «الحياة» المرموقة، والتطور الذي تحقق لها، ثم تأسيس مجموعة «إم بي سي»، ومجموعة روتانا. ومما يؤسف له، أن معظم هذه القيادات والنجاحات التي تحققت تحت أيديهم، ربما لم تكن لتتحقق لولا وجود هذه المؤسسات خارج الوطن، ولكن تلك قصة أخرى لن أتناولها اليوم.

بالأمس غادر الإعلام قيادي متفرغ، وأحد أبرز فرسان الإعلام السعودي – وأقصد عبدالرحمن الراشد – محطة «العربية» الإخبارية، مأسوفاً عليه من الكثيرين، بعد عقد من الزمن استطاع خلاله، على رغم المنافسة الشريفة وغير الشريفة بواسطة بعض المحطات الأخرى، وضع هذه القناة على رأس القنوات الإخبارية العربية، مصدراً موثوقاً به لوكالات الأنباء والمحطات الإخبارية العالمية.

نعم نجحنا في مجال الصحف – كما أشرت – لكن من كان يتخيل أن تؤسس رؤوس الأموال السعودية قناة إخبارية بإدارة سعودية، ثم تتربع في هذه المكانة المرموقة عربياً وعالمياً. ما هي خبراتنا التلفزيونية الإخبارية في المملكة، ونحن لا نعرف عن نشرات الأخبار إلا «استقبل وودع» وصوراً مصحوبة بسمفونية لبيتهوفن، أقول: ما هذه الخبرات التي تؤهلنا لمثل هذا الإنجاز؟ لكنه حدث بالفعل بتوفيق من الله أولاً، ثم بفضل الرؤية الثاقبة لمجموعة «إم بي سي»، عندما اختارت الراشد للقيام بهذه المهمة، وفي أحلك الظروف المحيطة بالمملكة والمنطقة وأكثرها تعقيداً.

ظهور «العربية» أساساً أتى برغبة وبعد نظر وتقدير لدور الإعلام من الملك فهد بن عبدالعزيز – رحمه الله – عام ٢٠٠٣ للتصدي والدفاع عن المملكة ومواقفها، وكان له ما أراد، عندما استجاب الوليد البراهيم لهذا الطلب وقبل التحدي. يذكر أن نشأة هذه القناة أتت متزامنة مع تألق قناة «الجزيرة» في قطر، والتي مع الأسف وعلى رغم إخراجها المبهر فنياً، تعمدت اجتناب الموضوعية فيما يتصل بالمملكة في كثير من برامجها وتغطياتها الإخبارية. أتت «العربية» في فوضى العمليات الإرهابية التي اجتاحت المملكة، بتغطية حرة أمينة للأحداث المتصلة بتنظيم «القاعدة» ميدانياً، ومنحت المشاهد السعودي والعربي خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تتابع القناة التي تمجد المفجرين، وتزخرف أو تبحث عن المبررات لأعمالهم الإجرامية، وإما القناة التي تقدم الصورة الحية والشهادات الإنسانية والمعلومات الصادقة، عما يجري من فظائع وإهدار للدماء البريئة والممتلكات العامة.

«العربية» لم تتوقف عند نقل الخبر من الميدان فقط، بل ذهبت إلى العمق، لتبحث أسرار وخبايا هذا الفكر، عبر عدد من البرامج المميزة واللقاءات المنتقاة. «صناعة الموت»، الذي أتى بمبادرة من الكاتب عبدالله بن بجاد العتيبي، وهو المتخصص في درس الجماعات الإسلامية، وفتح له الراشد فضاء الحرية، ووفر له الدعم «اللوجستي»، كان من أهم وأخطر البرامج الإخبارية التي توغلت في هذا الشأن.

لا يمكنني نسيان كم الجدل والتناحر في تلك الفترة من الزمن، وهي عصر المنتديات الحوارية في الإنترنت قبل ظهور «فيسبوك» و«تويتر»، بين المؤيدين والمنكرين للقاعدة. في النهاية وبعد توالي الحلقات وكشف المستور، أصبح برنامج «صناعة الموت» يشكل ألم الضرس لدى المؤيدين لتلك الجماعات، وبدأت أسمع ومنذ ذلك الوقت مسمى «العبرية» عند الحديث عن «العربية»، وكأن هذه الجماعات لا هم لها إلا قتال اليهود، ولا هم لقناة «العربية» إلا الدفاع عن إسرائيل.

اليوم تتربع «العربية» على رأس قائمة القنوات الأكثر مشاهدة في عالمنا العربي، بسبب تمسكها بمبادئ المهنية الصحافية والبحث عن الحقيقة وقدرة ربانها ومساعديه على استشراف الغد والتحضير له. نقاط التحول في الصدقية بين قناتي «العربية» و«الجزيرة» التي استفردت فيما بعد، وبطريقة حصرية مريبة، ببثها خطب قيادات «القاعدة»، كثيرة، لكنني لا يمكن أن أنسى أبرزها. الزمن كان يوم الاغتيال الغادر للرئيس رفيق الحريري في بيروت عام ٢٠٠٥، عندما غامر مدير قناة «الجزيرة» آنذاك في بث شريط المدعو أبوعدس، الانتحاري المزعوم الذي وجدت المحطة شريطاً مسجلاً له في منطقة نائية في جبل لبنان، وكان معلقاً بغصن شجرة!!. غامر هذا المدير ببث محتوى الشريط على رغم رداءة القصة وركاكتها، وأطلق حينها بعض المعلقين مسمى «قناة أبوعدس» على «الجزيرة». أدركت شخصياً، منذ تلك اللحظة أن مهمة «العربية» ربما أصبحت أسهل بكثير مما كنت أتصور.

هذا هو الفرق بين القناة المؤدلجة المنحازة لأجندات معينة، والقناة المستقلة. صحيح أن «العربية» تدافع عن المصالح السعودية، وهذا أمر مشروع كما تفعل أية قناة أخرى مع أوطان مالكيها، لكن لا يمكن أن يصل بها الأمر إلى هذا الحد من الإسفاف والاستخفاف بعقول المشاهدين. هنا ومن بين عدد من العوامل الأخرى في شخصيته، تبرز أهمية وجود قائد كعبدالرحمن الراشد على هرم هذه القناة. فهذا الرجل لا يمكن أن يبث شريطاً كهذا حتى لو قلبنا الصورة تماماً، وكان لدى المملكة خصومة مع الطرف المقابل، وأن بث مثل هذه المادة قد يخدم مصالحها.

الحقيقة، وهذا سر إعجابي بهذا الرجل، أن وقوف «العربية» بهذه الصلابة مع التمسك بالموضوعية والمهنية ضد تلك الحرب الشعواء على بلادنا لم يكن له مثيل. الاستثناء أنه يذكرني، ولو بنسب متفاوتة وأزمان مختلفة، بموقف عثمان العمير رئيس تحرير «الشرق الأوسط» السابق، وغازي القصيبي رحمه الله، ضد صدام حسين، ومن وقف معه في أيام غزو الكويت. من ينسى مقالة «في عين العاصفة»؟ العمير والقصيبي استندا في دفاعهما عن المملكة لا إلى تعليمات من وزير الإعلام، بل إلى مبادئ راسخة يؤمنان بها، وكانا يريان من خلالها الوطن ومستقبله والمخاطر التي تهدده. هذا بالضبط ما فعلته «العربية» إذ استندت هي الأخرى إلى مبادئ ومواقف واستراتيجية وفكر مديرها الراشد، ولم تكتف بإعادة بث ما يأتيها من وكالات الأنباء العالمية فقط.

نعم، قد يختلف معه البعض في مواقف معينة، كما اختلفوا مع القصيبي «حتى لا تكون فتنة»، بل وقد يختلف معه وزير الإعلام السعودي نفسه أحياناً، لكن لا يمكن أن يختلف أحد، بما في ذلك المسؤولون في الدولة، على أن القناة في النهاية خدمت المملكة وحلفاء المملكة، وفضحت زيف الخونة والجماعات والأحزاب المتطرفة بشكل لم يسبق له مثيل. بصفتي مواطناً سعودياً، لا يمكن أن أقدر ذلك الجهد والتفاني والإصرار والثبات على المواقف بثمن. في أدبيات التجارة تعتبر هذه الإنجازات الوطنية «أصولاً» أو «Assets» ذات قيم معنوية ومادية مرتفعة، ويجب عدم التفريط بها.

من أبرز عوامل نجاح الراشد في القناة، أنه رجل يتصف بالحكمة والتروي والهدوء، والقدرة على قراءة الأحداث وتحليلها، إضافة إلى تميزه باستشراف المستقبل، وهذا لم يكن مفاجئاً للكثيرين ممن كان متابعاً له من قبل. يكفي إلقاء نظرة خاطفة على انتشار عموده اليومي في صفحة الرأي في «الشرق الأوسط». هذا العمود القصير بعدد كلماته الغني بمعانيه، تحول إلى العمود الأكثر قراءة واهتماماً لدى صناع القرارات والنخب السياسية والمثقفة، ليس فقط في عالمنا العربي، بل في العالم بأسره. والعجيب أنه على رغم الحملات البذيئة ضد ما تقدمه القناة وضده هو شخصياً والتي تصل إلى حدود القذف أحياناً، وخصوصاً بعد مواقف القناة الصلبة ضد توجهات جماعة «الإخوان المسلمين» بعد وصولهم إلى السلطة في مصر، لم أجده يوماً متضايقاً أو غاضباً، ونحن نلتقي في كثير من المناسبات في كل مكان، ونتواصل عبر الهاتف، بل كان دائم الابتسامة والبشاشة واللطف وحسن الخلق.

شكراً جزيلاً، ابن الوطن عبدالرحمن الراشد، على كل ما أسهمت به في دفاعك عن بلادك وأهلها ومستقبل أبنائها، وهو دفاع عظيم بأسلحة ناعمة ذكية ولاذعة، قد لا يرى بعضنا نتائجه اليوم، لكن التاريخ سيسطر لكم ذلك مستقبلاً. شكراً لإسهاماتك المميزة في ارتقاء الإعلام السعودي مستوى وجودة وذوقاً راقياً، وإثارة مهنية جعلتنا نستغني عن المحطات العالمية. شكراً لإسهاماتك الكبيرة في خلق جيل جديد من الإعلاميين السعوديين، الذين ينظرون إلى سيرتك ويتخذون منجزاتك أهدافاً لهم، على رغم ارتفاع السقف وصعوبة المهمة، وكأني بلسان حالهم يقول: الله يسامحك.

وأعيد عليك ما طلبه منك أحد الأصدقاء قبل أيام، وما نطالب به صديقنا عثمان العمير منذ أعوام، وما نعاني من شحه بشكل عام في مجتمعاتنا، دوّنوا مذكراتكم وتجاربكم ومواقفكم وأعدوها للنشر في الوقت المناسب. لنتذكر جميعاً كتاب «حياة في الإدارة» وما حققه من انتشار واسع. أنا وغيري، بل وحتى مراكز البحث وطلاب الدراسات العليا نتفق على أن محتويات مثل هذه الكتب ستكون حالات تدّرس في الكليات المتخصصة، ولذا فتجاهلها وعدم اطلاع أجيال الغد عليها يعتبر خسارة كبيرة لمسيرة العمل الصحافي في بلادنا.

المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Fahad-Al-Dgheter/5963575/عبدالرحمن-الراشد—التميّز