محمد شحرور
محمد شحرور
مفكر إسلامي

عقود لا عبودية

آراء

خاص لـ هات بوست :

يمكن لمتتبع القصص المحمدي في التنزيل الحكيم، أي الأحداث التي توثق عصر النبوة، إضافة للأحكام التي رافقتها، يمكنه ملاحظة القفزة النوعية التي أجرتها الرسالة المحمدية في خط سير التاريخ، حيث وضعت حجر الأساس لأمور عدة، استغرقت الإنسانية قروناً للوصول إليها، سواء على صعيد الأحوال الشخصية أو نقل الملكية أو العلاقات بين الدول، وما هو أهم: حقوق الإنسان والقيم الأخلاقية، ومع أن خط سير التاريخ عاد إلى مجراه الطبيعي بعد وفاة الرسول إلا أن خاتمية الرسالة وعالميتها اقتضتا أن تحمل الخطوط العريضة لمآلات لا بد للإنسانية من الوصول إليها لاحقاً.

ولعل من أهم المبادىء التي جاءت بها الرسالة هي أن التقوى مقياس التكريم عند الله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات 13)، بالدرجة الأولى تقوى الإسلام وتختص بالعمل الصالح {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت 33)، ولا يقبل فيها أنصاف الحلول{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } (آل عمران 102)، ثم تقوى الإيمان التي تختص بالتقرب إلى الله كل وفق استطاعته {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن 16).

وتبين الآية (الحجرات 113) أن الله لا يميز بين الناس تبعاً لجنسهم ولا لعرقهم ولا للونهم، فلا أفضلية للرجل على المرأة، ولا سيد وعبد، لا عبودية لأحد، ورغم أن الإنسانية لم تصل إلى إلغاء الرق إلا في العصر الحديث، إلا أن الرسالة المحمدية جففت منابع الرق فلا عبودية للأسرى، ولا سبي في الحروب {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} (محمد 4)، وأوجدت حلاً لما كان موجوداً عن طريق التشجيع على تحرير الرقاب{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (المائدة 89)، وقدمت نظاماً بديلاً يؤدي المهام ذاتها، لكنه يقوم على العقود بأجر، حيث العقد بالتراضي شريعة المتعاقدين، دونما إكراه ولا استغلال، ولا إذلال للنفس الإنسانية، ومن بين مهامه تلك عقود الخدمة المنزلية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (النور 58)، فالعاملون في منازلكم ملك ليمين هو عقد بينكم وبينهم {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} (المائدة 89)، والأعمال المطلوبة منهم تقتصر على ما جاء في العقد، والله تعالى أمر بالوفاء بالعقود، إضافة إلى جملة من القيم الإنسانية الأخرى، التي تجعل التعامل بالحسنى مع الناس هي الصراط المستقيم الذي أوصانا الله اتباعه، فخدم المنازل هم قبل كل شيء إخوتنا في الإنسانية، لهم أسرهم وأهلهم وربما أولادهم، وشاءت ظروفهم وظروفنا أن يعملوا لدينا، لكنهم بجميع الأحوال ليسوا عبيدنا، وهم يشعرون كما نشعر ويتعبون ويمرضون ويصيبهم الضيق والملل كما نحن تماماً، إضافة لمعاناتهم غالباً من فقر أو اشتياق أو حاجة، والله تعالى أمرنا بالإحسان لهم {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} (النساء 36)، مع ملاحظة تأكيده سبحانه أنه {لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً}، وهو أو هي ملك يمينك في نطاق العقد ووظائفه، ولا يعني أبداً أن تستغل ظروفه وتمارس عليه أشكال التسلط والاستبداد.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك من يستغلون ضعف عاملات المنازل وحاجتهن، ويسمحون لأنفسهم بالتحرش بهن أو الاعتداء عليهن، تحت مسمى “ملك اليمين”، في حين أن هذا لا يمكن أن يسمى إلا “اغتصاب”، ومن يفعل ذلك لا ينتظر رضا الله بالتأكيد.

خلاصة القول أن الإسلام منظومة متكاملة، قوامها الأساسي هو الأخلاق، وأساس الحساب فيها هو التقوى في التعامل مع الناس، والله تعالى لا يساء له ولا يحسن إليه، ويغفر لنا ذنوبنا بحقه، لكنه لا يتهاون بالإساءة للآخرين، فاتقوا الله {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل 128).