محمد فاضل العبيدلي
محمد فاضل العبيدلي
عمل محرراً في قسم الشؤون المحلية بصحيفة "أخبار الخليج" البحرينية، ثم محرراً في قسم الديسك ومحرراً للشؤون الخارجية مسؤولاً عن التغطيات الخارجية. وأصبح رئيساً لقسم الشؤون المحلية، ثم رئيساً لقسم الشؤون العربية والدولية ثم نائباً لمدير التحرير في صحيفة "الايام" البحرينية، ثم إنتقل للعمل مراسلاً لوكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) كما عمل محرراً في لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية.

عمر الشريف.. الوطأة الثقيلة للنوستالجيا

آراء

توفر لنا لحظة التفكير في وفاة عمر الشريف فسحة للنوستالجيا، وما من شك أن من رثاه بتدوينة على موقع «فيسبوك» أو أي وسيلة أخرى قد لا يكون منجذباً للشهرة التي أحاطت به ولا لوسامته الأخاذة فحسب، بل إن استذكار الشريف وبتأثير اللحظة الراهنة فقط يبدو حنيناً مكتوماً لتلك الأزمان التي خلدتها أفلامه، وصورة احتجاج آخر لواقع راهن بلغ مداه في الوطأة الثقيلة.

هكذا، وجدت نفسي وأنا أستعيد تاريخ عمر الشريف الفني متوقفاً أمام ثلاثة أفلام هي من أفضل ما شاهدت له مطبوعة في الذاكرة: “بداية ونهاية” للمخرج الراحل صلاح أبوسيف والمأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ بنفس الاسم، “لورانس العرب” المأخوذ عن مذكرات واحد من أبرع الضباط الإنجليز في ذروة التوسع الاستعماري لبريطانيا، توماس إدوارد لورنس عن الثورة العربية، وأخيراً “دكتور جيفاغو” المأخوذ عن رواية للروائي الروسي بوريس باسترناك وكلا الفيلمين من إخراج الانجليزي ديفيد لين، واحد من أفضل مخرجي السينما العالمية.

لا تكف المفارقات عن الظهور في كل لحظة استدعاء لمشهد أو آخر من تلك الأفلام. فمشاهد فيلم «لورنس العرب» والمسيرة الطويلة نحو دمشق ودخول الجيش العربي لها، وتتويج الملك فيصل ملكاً على سوريا، ستعيدنا وبشيء من القسوة إلى واقع راهن تبدو سوريا فيه برسم التقسيم إلى دويلات طائفية.

سيستوقفنا بالتأكيد ذلك الحوار الملهم في الفيلم بين لورنس والجنرال اللنبي بحضور الملك فيصل الأول بعد دخول دمشق، عندما قرر الجنرال اللنبي إعفاء لورنس من الخدمة.

في المشهد، ينوه اللنبي بخدمات لورنس ويبلغه بأنه قد تمت ترقيته إلى رتبة عقيد ستتيح له غرفة خاصة في باخرة العودة للوطن. وأمام الاحتجاج الصامت الذي يبديه الضابط الشاب، يتدخل الملك فيصل ليواسيه: “الحرب للشباب، لذا فهي تحمل كل فضائل الشباب، أما السلام فيصنعه كبار السن لهذا فهو مليء برذائل كبار السن”.

سيعيدنا هذا الحوار دون شك إلى حرب ينخرط فيها الشباب منذ أربع سنوات، تقل فيها الفضائل إلى أدنى حد، بل إنها تنعدم في الغالب الأعم وسيدفعنا للتساؤل عن كبار السن الذين يتعين أن يصنعوا السلام ولو طبعوه برذائل كبار السن وميلهم للتسويات.. أين هم؟

مع موسيقى موريس جار، يبدو فيلم “دكتور جيفاغو” رواية بصرية ساطعة وأخاذة، لكن هذه الرواية المتمحورة حول مصير الفرد في أزمان الثورات والتحولات الكبرى، ستدفع إلى أذهاننا صورة مشوهة للغاية بعد 98 عاماً.

لقد كانت روسيا تنهبها المجاعة والبؤس في سنوات حربها الأهلية (1918-1921) كما سجل التاريخ والفيلم وثمة ما سيعيدنا بقوة إلى هذا المصير مع رقم قياسي جديد: أربعة ملايين لاجئ سوري هو الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية. رقم ليس فيه أي مدلول يشي بفخر من أي نوع ولا بالحدود الدنيا. وقبل ثلاث سنوات كان من الممكن أن نجد من يقول إن الكلف البشرية ثمن الثورة ضد الاستبداد، لكن يصعب اليوم أن يتجرأ أحد على قول ذلك.

أما فيلم «بداية ونهاية» الذي تدور أحداثه في الثلاثينات من القرن الماضي، فسوف يثير نوازع حنين لا حد لها لأجيال عدة دون ريب، الحنين الذي يترجمه اليوم بعض التذكير من بعض الأفراد بالصور الزاهية لمصر أيام الملكية في مقارنة تنطوي على حسرات مع واقع أليم تعيشه مصر.

ذلك الفتى المغرور حسنين ابن العائلة الفقيرة المسكون بالقيم الطبقية مثلما أداه عمر الشريف في الفيلم ومصيره الذي دفعه للانتحار بعد صدمته في شقيقته التي ظلت تنفق على متطلباته المظهرية الكاذبة، سيذكرنا بشباب ينتحرون وهم يتحزمون بالمتفجرات لقتل أناس من بني جلدتهم ولا يهم إن كان ذلك في الأسواق أو الشوارع أو المساجد.

ثمة فارق مؤكد بين كلا نوعي الانتحار، ففي الفيلم صدم الضابط الشاب المسكون بهواجس الترقي الاجتماعي بفضيحة شقيقته التي ظلت تنفق عليه بتضحيات سنوات طوال إلى أن زينت النجوم كتفيه بالبدلة «الميري»، لقد قرر أن يعاقب نفسه بالموت لأن أنانيته تحطمت.

أما هؤلاء الذين يتحزمون بالمتفجرات فيأتون من أسر مستقرة بل وميسورة يقررون فجأة بدافع من فهم مشوه للعقيدة أن يقتلوا غيرهم من أبناء جلدتهم في وضع تدبره الصدفة العبثية وحدها. تلك مأساة صنعها الفقر كما في الفيلم وزمنه الذي يحكي عنه، أما مآسي اليوم فلا دافع لها سوى العبث والعدمية.

وثمة فارق آخر تستدعيه المقارنات التي لا تنتهي: ففي الوقت الذي خرجت فيه هذه الأفلام أي ستينات القرن الماضي، كان كل شيء يبدو حقيقياً وغير مصطنع حتى أسوأ ما في تلك الأزمان. أما اليوم فيداخلنا إحساس لا فكاك منه بأن كل ما يجري فيه قدر هائل من الزيف والاصطناع والخديعة ولكأننا نعيش وسط غابة من المرايا.

وسواء تعلق الأمر بالسينما التي ذكرنا بها موت عمر الشريف وسامي العدل أيضاً، أم بالتاريخ الذي تسجله، فإن مقارنات لا مناص منها كهذه، جديرة بأن تدفعنا للتساؤل عميقاً عما إذا كان يتعين علينا لا التفكير فيما تغير فحسب، بل التساؤل عن ساعة الجسارة التي ننتظرها لتغيير هذا الواقع الذي يفرض علينا أن نسير من خسارة إلى خسارات للإنسان والأوطان.

عن البيان – 17 يوليو 2015