علي سعد الموسى
علي سعد الموسى
كاتب عمود يومي في صحيفة الوطن السعودية

“غزال”.. ذروة الجهل بطبائع البحث العلمي

آراء

هناك ما يكفي من الفخر والاعتزاز لإدارة جامعة الملك سعود السابقة أن مشروعاً بحثياً ابتكارياً مثل قصة السيارة (غزال)، يعود اليوم إلى واجهة الحديث الإعلامي، ويستأثر بهذه الهجمة المنظمة، وينال كل هذا القدح لأن فكرة بحثية جامعية أرادت أن تكسر (التابوه) المغلق في المخيال المجتمعي بأن الجامعة مجرد أستاذ وطبشورة وقاعة دراسية.

وحين قرأت بالأمس كلاماً عن أن فكرة “غزال” فساد يستوجب التحقق والتحقيق، أدركت أننا أمام منعطف خطير جداً قد يجبر الجامعات وكوادرها البحثية، وخصوصاً في المجالات العلمية، على اليأس وخفض الرأس خوفاً من ردة الفعل المجتمعي على أي اختراع أو خيال أو مغامرة علمية تستلزم أركانها البحثية اشتراطات النجاح والفشل، من هو الذي سيجرؤ بعد هذا الهجوم الشرس على فكرة (غزال) أن يتصدى لفكرة بحثية مكلفة وهو يعلم أن طبيعة الأبحاث العلمية الجادة التي غيرت مسيرة الكون البشري تفشل في عشرات التجارب الابتدائية ثم تحاول إعادة البحث وتجريب الطرائق والبدائل؟!

تعالوا لنقرأ هذه النماذج من العلماء ومن قصص اختراعاتهم التي غيرت لون الحياة الإنسانية. اخترع الأخوان (رايت) فكرة الطيران الحديث، وحين فشلت فكرة التجريب في المرة الثالثة عشرة بكى الأخ الأكبر لأنه كان واثقاً في التجربة الأخيرة من نجاعة الفكرة والتجربة، ولفرط الثقة جمع من حوله جماهير مدينته في حقل (لومباردا)، وحين سقط باكياً حمله المئات على الأعناق وساندوه لمواصلة الحلم، فلم يدقوا المسمار في نعشه المتعب مثلما نفعل اليوم مع بضعة طلبة من أبنائنا الذين كانوا وقوداً لأول فكرة بحثية جماعية للموؤودة (غزال) بفعل جهلنا الفاضح أن الاختراع والعلم لا يبنيان إلا على الفشل وإعادة التجربة.

في القصة الأخرى، أنا لا أريد لمجتمعنا مع (غزال) أن يسير في خطى (إليزابيث بيل)، زوجة العالم الأسطوري (جراهام بيل) حين تركته لأنها سئمت ثمانية عشر عاماً من تجربة زوجها لاختراع أسطورة (الهاتف) تركته، كما تقول مذكراته، لأنه وصل بأسلاكه ومعداته إلى سرير النوم، ثم قالت من بعدها إن (جراهام) يعيش حالة انفصام سلوكية، وكان أمامه الخيار الرهيب: أن يتخلى عن المشروع أو عن الزوجة.

في القصة الثالثة المدهشة: ابتدأ (ألكسندر فلمنج) أعظم مشروع في تاريخ البشرية حين اخترع مادة (البنسلين) كأول مضاد حيوي بيولوجي غيّر مسيرة البشرية مع علم الأمراض وطرائق العلاج الصيدلانية. ابتدأ (ألكسندر فلمنج) أبحاثه عام 1881 في مختبر (لوكفيليد) في مقاطعة أسكتلندا البريطانية، وبعد عقدين من الزمن طرده المركز لأنه بدَّد أموال المركز البحثية على طرائق بحثية فشلت لمئتي تجربة. ترك فلمنج تجاربه لخمس سنوات قبل أن يلتقطه مستشفى (سانت ماري) اللندني الذي يستمد شهرته وعالمه الاقتصادي الضخم من أنه (الموئل) الذي كتب فيه ألكسندر فلمنج بحثه الأخير عن كشف (البنسلين).

نحن اليوم نحارب عشرين طالباً من هندسة جامعة الملك سعود لأنهم تجرؤوا على كسر (التابوه) في مسيرة البحث مع النجاح بعد تجارب الفشل.

نحن هجمنا على فكرة السيارة (غزال) منذ اليوم الأول من أجل ثاراتنا مع مدير الجامعة الذي دعم أول فكرة تصنيعية في مسيرة الجامعات السعودية.

وفي الهجمة الأولى على مشروع (غزال) سآخذكم إلى القصة التالية: بالتزامن مع مشروع (غزال) ضربت (حمى الخنازير) بأطنابها، ثم تقدم بضعة أساتذة من جامعة الملك سعود بمشروع للدكتور (عبدالله العثمان) بمحاولة تجريبية لفصل الفيروس في خطوة أولى لعلاجه. انسحبوا جميعاً لأنهم يخافون من تكرار تجربة (غزال) مع الهجمة المجتمعية رغم تعهد مدير الجامعة بأن التمويل البحثي مكتملاً لن يأتي بريال واحد من ميزانية الجامعة.

وفي الخلاصة: مَن هو الأستاذ الجامعي الذي سيجرؤ بعد اليوم على فكرة خلاقة من البحث العلمي وهو يشاهد هذه الهجمة المخيفة على فكرة بحثية رمت بحجرها على الماء الراكد الطويل في بحيرة جامعاتنا الآسنة؟!

المصدر: الوطن أون لاين