عبدالعزيز الخضر
عبدالعزيز الخضر
كاتب و باحث سعودي

في أوهام تطبيقات الشريعة!

آراء

«الشريعة.. الشريعة يا عم خلاص عرفنا.. يا عم طبأ الشريعة بكرا الصبح، وهي متطبأة.. أنت عايز تطبأ الحدود ما تطبأها وِحَدْ مانع الرئيس محمد مرسي إنه يطبأ الشريعة..؟»، «همّا طالعين الجمعة دي.. ضد الأعداء اللي بيرفضوا تطبيء الشريعة، وأنت مالك أساسا باللي يرفضوا أو يوافقوا.. أنت ليك اللي بيطبأها.. مين بيده يطبقها الرئيس محمد مرسي ما تروح تطالب الرئيس..» هكذا قال إبراهيم عيسى بقدر من المكر الصحفي والفن المسرحي يسخر من خصومه الإسلاميين في برنامجه الفضائي.

يصور هذا الكلام شيئاً من مشهد النكايات المتبادلة هذه الأيام بين مختلف القوى في المشهد المصري. أفضل ما في الربيع العربي أنه عطل فعالية كثير من الأفكار والمقولات السجالية القديمة، وبدأت تفرض لغة جديدة، بما فيها منطق صناعة العدو في الداخل ورؤية الغرب، لأن السيناريو الذي انهارت فيه الأوضاع مختلف عن كل التركيبات الذهنية التي تتصور حدوث التغيير فيه، ومع ذلك فبعضهم لازال يرغب العودة لمنطق الماضي. كانت الفكرة الأولية التقليدية لبعض خصوم الإسلاميين أن ما يتظاهرون فيه من اعتدال هو مجرد خداع فعندما يصلوا للسلطة سيظهر الجانب المتشدد جداً منهم فوراً.. لكن المشكلة أن الذين ظهر منهم التشدد هم فقط المتشددون في السابق وهم أقلية، والمعتدلون حافظوا على اعتدالهم المطلوب من خصومهم. ولهذا أصبح خصمهم يزايد على تأخرهم في التشدد.. هذا الخصم المتذاكي يبحث عن لقطة خداع هنا أو هناك، فيدعي أن هناك تبادل أدوار، أو يقول لك يا للهول.. لقد تخلوا عن شعاراتهم الإسلامية ألم نقل لكم أنهم طلاب سلطة؟.. أشياء كثيرة المهم فيها أن تكون قصير الذاكرة!

تقدم الحالة المصرية فرصة واقعية لكشف كثير من تلاعبات الماضي عند كل تيار. هي لحظة نادرة للصراع السياسي بين الإسلاميين وخصومهم بشأن هوية الدولة ومرجعيتها، بدون مستعمر.. استعمل في التخوين لرموز تاريخية، وبدون انقلاب عسكري، وبدون تغيير على الطريقة (البوشية) في أفغانستان والعراق، فلأكثر من عام والجدل قائم حول صياغة الدستور الجديد، واتهامات متبادلة بين القوى المدنية والإسلامية، وكل طرف يدافع عن رؤيته. تبدو المادة الثانية الأكثر حضوراً في الفترة الماضية من الدستور القديم والتي تنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع». ترفض القوى الإسلامية ومعها الأزهر تغيير هذه المادة، سواء بالإضافة أو الحذف، فيما يرى بعض السلفيين ضرورة إجراء تعديلات تضمن تطبيق الشريعة في المستقبل.

بعد تجاوز قبول الديمقراطية عملياً من مجمل التيارات الإسلامية حتى من بعض خصومها التاريخيين في سجالاتهم الطهرانية في تحريم أو تكفير الديمقراطية للبحث عن شكلانية نقية يصبح فيها قادراً على تفسيق وتبديع من يريد. كل الآراء المتخيلة والواقعية والمتسامحة جداً والمتشددة جداً قيلت في الديمقراطية وفي تطبيق الشريعة في الماضي ولأكثر من قرن، وبناء عليها أصبح لدينا جماعات واتجاهات وشخصيات علمية وفكرية مصنفة في هذا الجانب أو ذاك. هناك تطبيقات متعددة للشريعة تاريخياً ونظرياً، وليس تطبيقاً واحداً لكن من أبرز الإشكاليات أن الجدل حولها استسلم لثنائية التطبيق أو عدم التطبيق متجاوزة فكرة الدولة الحديثة وتعقيداتها، فتحول بعضها إلى نتائج فكرية ضارة، مع أن كثيراً منهم يؤمن بصعوبة التطبيق المثالي، وأن من لا يعلن تطبيق الشريعة قد نجد لديه كثيراً من مظاهر الإسلام، ومن يعلن تطبيقها قد نجد لديه ما يخالفها. لكن ولأنه مشغول بإصدار حكم شامل وقيمي على (الدولة) أو (النظام) ومدى شرعيته، وكأنه فرد واحد يحكم على عقيدته وإيمانه كفره وظاهره وباطنه، فلم يبق إلا حكم تزويجه ودفنه في مقابر المسلمين! ولهذا اتجه البحث في هذه المسائل بين اتجاه يريد إدانة الأنظمة الموجودة.. فيضطر لتجاهل الصواب لديها، وآخر يريد أن يدافع عنها وعن أخطاء التاريخ الإسلامي فتقوى لديه حاسة التبرير الفقهي حتى وإن لم يشرعنه، لأنه مشغول بهاجس الخروج على النظام، وتبرير موقفه المشيخي.

عملياً تم تجاوز الموقف من الديمقراطية كل من رضي الدخول فيها، حتى قبل أن تحسم بعض التيارات الأكثر محافظة رؤيتها النظرية، وقد كان بعضها يزايد لعقود طويلة على الإسلامي المتسامح والتنويري. هو الآن يدخلها (لمصلحة شرعية) يراها ويقبل لغيره ذلك. جميل إذن هو فقه المقاصد يعمل الآن، الذي كان بعضهم يبذل جهداً كبيراً لاكتشاف مؤامرات إسلاميين آخرين يريدون استعماله دون الرجوع إليهم!

يأتي المستنير المستجد أو القديم ليقول لك الشريعة ليست هي الحدود فقط، عبارة مكررة ويؤمن بها حتى خصومه، لكن الحدود جزء من الشريعة وستظل بعض جوانبها العملية محل جدل. يكرر هذا المستنير عبارات أخرى أكثر بريقاً في الفضاء السجالي، وهي أهمية الفصل بين الرأي الفقهي والنص، لكن تفقد فعالياتها العملية عند الممارسة لصعوبات كبرى في تشكل التراث، يؤمن بهذه الرؤية حتى من يصنفه المستنير بالمتشدد.. فالمشكلة الأكبر ليست في العبارة ولكن من يقوم بعملية الفصل؟ هي عملية فصل غير ميكانيكية بالتأكيد، وجزء من مشكلة بعض مظاهر التشدد أنه فاصل.. يفصل بقوة النص عن الفقه.. ورطت بعضهم في متاهة العنف!

مع مأزق الواقع الحالي اكتشف السلفي فجأة أهمية فقه التدرج فعاد لتأصيله.. للخروج من المأزق العملي ليس للسلطة الجديدة، وإنما لخطابه الذي قد يقوده إلى مواقف حرجة! يتحدث آخر يتدرب على فن النكاية، عن حكاية رومانسية تطبيق الشريعة ليس لأنه يريد أن يكون واقعياً وإنما لممارسة دوره في السخرية من أي محاولة معتدلة أو متشددة، ويتجاهل أن هناك محاولات فكرية مستنيرة ومبكرة للقضاء على هذه الرومانسية واستفاد منها حتى أصحاب الرؤى المتشددة.

مشكلة تطبيق الشريعة منذ القرن قبل الماضي أنها ارتبطت بوجود المستعمر الذي جاء بأنظمته السياسية الإدارية وقوانينه الغربية، وعندما ظهرت محاكمه وجدت بعض أبناء المسلمين يفضلها لعصريتها وتطورها، وفي مرحلة تالية وجدت أصوات من أبناء هذه الدول تدعو لتنحية كثير من المظاهر الدينية التي ترى أنه سبب التخلف والتأخر عن ركب الحضارة. في هذه الأجواء نشأت الدعوات للعودة إلى الإسلام وتطبيق الشريعة وظهرت الحركات الإسلامية، ومع أنه حدثت تطورات كثيرة، وتعدلت بعض تفاصيل الأنظمة بما يناسب المجتمع بعد رحيل المستعمر إلا أن البدايات المربكة أثرت طويلاً على هذه السجالات، بحضور سوء الظن ابتداءً، مما أخر نضج هذه الأطروحات وهي تواجه بعوائق التفسيق والتخوين. تبدو المشكلة الآن ليست في المستعمر، وإنما في المجتمع نفسه الذي ارتبط مع ثقافة العصر بصورة لحظية بوسائل اتصال أخرى مختلفة عن مرحلة الاستعمار، وأصبح متأثراً بحداثة العصر تلقائياً ويقارنها بواقعه، هذه التطورات الواقعية ليست من صنع بضعة تنويريين يريدون أن يضللوا الأمة يمكن اختزالهم وتشويههم بتغريدة أو مقطع يوتيوب أو فتوى!

المصدر: صحيفة الشرق