«كراكيب» نفسية

آراء

في هولندا، حيث تبدو الدولة كلها كشجرة برتقال مثقلة بقناديل الفاكهة، تحتفل المؤسسات الرسمية والطبقة الغنية والأرستقراطيون، كلٌّ على طريقته، بعيد ميلاد الملك في الأسبوع الأخير من أبريل، ويعلق المحتفلون ما يشتهون من زينة على نوافذهم، وفوق حوانيتهم وأمام بيوتهم.. لكن رغم ما يشكله هذا اليوم الربيعي من علامة فارقة في حياة الهولنديين، إلا أنه يعتبر علامة فارقة أكثر عند الفقراء والطبقة المتوسطة من المواطنين والمقيمين، حيث يستغلّون العطلة الرسمية في التخلص من «كراكيبهم» البيتية المستعملة وعديمة الفائدة، مستفيدين في الوقت نفسه من الإعفاءات الضريبية، وتكاليف حجز الأماكن العامة في هذا اليوم التاريخي.. وهنا تكمن المفارقة الحقيقية؛ «اللي فوق» يحتفلون بذكرى ميلاد الملك.. و«اللي تحت» يستغلون المناسبة لبيع «كراكيبهم» وأغراضهم المستعملة وأدواتهم المنزلية، مستفيدين من مجّانية الأرصفة والحدائق وحجز الأسواق الشعبية.. «اللي فوق» يثمّنون المرحلة السابقة بمزيد من الفخر.. و«اللي تحت» يبيعون كل ما يتعلّق بالمرحلة السابقة بمزيد من الفقر.

في هذه المناسبة العزيزة، يجد الفقراء الفرصة مواتية للتخلص من «الكراكيش».. ألعاب أطفال، كراسي قديمة، ملابس انتهى زمنها، أدوات كهربائية كلفة إصلاحها أغلى من ثمن اقتنائها، أحذية ضيّقة، معاطف شتوية بأزرار واسعة، مكانس كهربائية معطّلة.. البيع يتم بعد مفاصلة قصيرة، أي مبلغ من أي قطعة «مكروهة» من مقتنيها القديم، تعتبر مكسباً إضافيا لم يكن ليحصل عليه «مقتنيها الجديد» لولا «بركات» هذه المناسبة الوطنية، ومع غروب شمس الميلاد يكون فقراء هولندا قد جنوا «يوروهات» معدودة، مقابل تخلصهم من عبء «كراكيبهم» الثقيل، بالجانب الآخر يكون فقراء هولندا الباقون.. قد اقتنوا بعض «حاجياتهم» ولو بنصف عمرها «بيوروهات» قليلة، ما كانوا ليقتنوها من متاجر الماركات والعلامات التجارية.

في هولندا، وفي العالم أجمع.. الفقراء عادة يُفرحون بعضهم بعضاً، ويسترون حوائج بعضهم بعضاً، دون جلبة أو ضجيج، فحتى فرحهم وكسبهم مضبوطان على وضعية الصامت «mute».

شخصياً، يوماً عن يوم.. تتضخم و«تتورّم» و«تتكوّم» «كراكيبي» النفسية في مستودع الذاكرة، ولا أجد – حتى اللحظة – مناسبة وطنية تفرحني، لعرض كل «كراكيبي» للبيع أو المبادلة.. ترى من يشترى مني «أحلامي الواسعة».. و«عروبتي الضيقة»؟! من يشتري «نكبة موديل 48؟».. من يشتري مني «وجع بغداد 2003؟».. من يشتري مني «سورية المستعملة؟»، «حلب المحترقة؟»، «مضايا بأمعائها الجائعة؟»، «الجامعة العربية المعطّلة؟».. من يشتري مني آمالاً معطوبة، كلفة إصلاحها أغلى بكثير من ثمن الاحتفاظ بها في مخزن التمنّي.. من؟ لا أحد.. لذا سأجمعها من على رصيف الشكوى، وأحملها من جديد في قلبي إلى آخر العمر!

المصدر: الإمارات اليوم