خاص لـ هات بوست:
هل تعرفون البذر؟ في بلاد الشام يكفي أن نقول بذر لنعرف أنه البذر الأسود المستخرج من داخل البطيخ الأحمر، يحمص ويملح ويفصص ويؤكل للتسلية، وبمجرد قولك “أفصص بذر” يعني أنك تضيع الوقت.
لكن “البذر” لا يعلم مدى أهميته ليصبح ليس فقط موضوعاً تتناقله مواقع التواصل الاجتماعي، وإنما تترتب عليه مسائل كبيرة، حيث تتصل شابة بالبرنامج على إحدى الفضائيات لتسأل الشيخ ما إن كان بإمكانها أكل البذر بعد أن حلف عليها زوجها يمين طلاق إن هي أكلته، هل سيقع عليها الطلاق في هذه الحالة، علماً أنها ستكون المرة الثالثة؟ يجيبها الشيخ بما معناه أن عليها الامتناع إذاً عن البذر نهائياً.
وبالطبع الشيخ هنا ليس معنياً ولا بإمكانه ثني الزوج كاره البذر عن قراره، وكل ما يمكنه تحذير الزوجة من أن الطلاق لا بد واقع في حال عدم الاستجابة لأوامر زوجها.
هل من المعقول أن الله تعالى شرّع خراب الأسرة كلما أكلت الزوجة ما لا يرغب به الزوج؟
في هذه الحالة كان “البذر” لكن يمكن لأي شيء تافه أن يكون سبباً في خراب بيت، يعني أسرة يفترض أنها تأسست لتكون خلية من الود والرحمة وسكن النفس، والأهم هو الأطفال في حال وجودهم، فالتفكك الأسري لا بد له من الانعكاس على حياتهم.
للموضوع جوانب عدة، لا يمكن الإحاطة بها جميعها، أحدها هو مدى سهولة الطلاق في مجتمعاتنا، حتى يكرر أكثر من مرة لأسباب سخيفة، فلا الرجل يتمهل ليفكر في شرطه ليمين الطلاق وما سيترتب عليه، ولا المرأة تحاول ألا تضع نفسها في مواقف حدية لهذه الدرجة.
لكن هذا الكلام يعكس خطأ أساسي يشكل لب الفكرة، وهو كون الرجل من يملك زمام الأمر بيده، يمكنه في أي لحظة أن يشرع التهديد في وجه هذه اللوحة المعلقة على جدار بيته، ليرميها خارجه، أو أن يضيف لها لوحة أخرى إن كان باستطاعته تحمل التكاليف، فالقوانين والأعراف لا تقف في وجهه، إضافة لمرجع أساس وهو الدين، بدليل لجوء الزوجة لفتوى الشيخ.
في “الشريعة الإسلامية” التي تستمد منها أغلب قوانين الأحوال الشخصية في بلداننا، الطلاق يصبح بائناً لا رجعة فيه في المرة الثالثة، وعلى رغم كراهته فهو يحق للرجل لأسبابه الخاصة، ويمكن للمرأة أن تطلب الطلاق مع التنازل عن حقوقها في حالات معينة، أي ما هو معروف بالخلع، مع تفاوت في مدى سهولة الأمر بين بلد وآخر، إضافة لإمكانية وقوع الطلاق دون علم الزوجة، إذ لا يشترط التلفظ بالطلاق أمامها (ابن عيثمين).
فإذا عدنا للتنزيل الحكيم وجدنا الطلاق كغيره من المواضيع الأساسية، مختلف تماماً عما اتبع في “الشريعة الإسلامية” خلال قرون، وله شروطه وتفاصيله، ورغم أن النص واضح وصريح {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة 229)، إلا أن الفقه الموروث اعتبر الطلاق ثلاث مرات، يمكن للزوج الرجعة عنه في المرتين الأولتين طالما كانت المرأة ما زالت في العدة، ويمكن للزوج أن يتم الطلقات الثلاث في يوم واحد، عند أغلب “أهل العلم”.
ورغم أن النص القرآني يعتبر الزواج بالمعنى القانوني هو “عقد” ويحتاج شهداء، فكذلك حل هذا العقد يحتاج إلى شهداء {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (الطلاق 2)، وقوله تعالى “إمساك بمعروف” يعني أن الطلاق يمكن أن يكون بناءً على رغبة المرأة.
يقرأ المفكر الراحل محمد شحرور موضوع الطلاق على اعتبار أن المرة الأولى يصاحبها إيلاء، أي فراق أربعة أشهر {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة 226) وهي مدة تسمح للطرفين بمراجعة نفسيهما، فإن تراجعا كان خيراً، وإن عزما الطلاق فقد احتسبت المرة الأولى، بعدها تتربص المرأة بنفسها مدة ثلاثة قروء أو حتى نهاية حملها في حال كانت حاملاً، أو حتى ثبات براءة الرحم لمن كانت هي الساعية للطلاق، وبذلك تكون المدة وسطياً سبعة أشهر للمراجعة، فإن بقيا على قرارهما وقع الطلاق الثاني، وإن قررا العودة لحياتهما المشتركة فبإمكانهما الرجوع كأن شيئاً لم يكن.
وسواء اتفقنا مع هذه القراءة أم اختلفنا، علينا الاستدلال أن موضوع الطلاق له حيز في التنزيل الحكيم لأهميته، وحري بنا دراسته، مستعينين بالخبرات الاجتماعية والقانونية، وإعادة النظر في الأحكام التشريعية المطبقة، بناءً على قراءات تمت قبل قرون سابقة، وافقت الظروف الزمانية والمكانية لمجتمعات مختلفة تماماً في شروطها الموضوعية والمعرفية عن مجتمعاتنا، وإلا سيبقى القرار في يد زوج أرعن اعتاد على قسم الطلاق كتفصيص البذر تماماً، فيستعمله كلما فصصت زوجته “بذر”.