“لا عذر”

آراء

خاص لـ هات بوست:

“تدعوكم الأمم المتحدة للمشاركة في حملة “لا عذر” المناهضة للعنف ضد النساء خلال الفترة بين الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني والعاشر من كانون الأول المصادف لليوم العالمي لحقوق الإنسان”

تقرأ هذا الإعلان ضمن فاصل من مشاهد عنف لا تحتمل، وخرق لقوانين الأمم المتحدة ولحقوق النساء والرجال والأطفال، وتتأمل بكم الشعارات التي يجري تجاوزها كل يوم دونما أعذار.

إلا أن الحملة تلك، قد خصت المرأة لمناهضة العنف ضدها، على اعتبار أن هذا شأن أممي لا يقتصر على بلد دون غيره، فالنساء في كل زمان ومكان يتعرضن لشكل من أشكال العنف غالباً يفوق ذاك الذي يمكن أن يتعرض له الرجال، وإذا تركنا العنف جانباً فما زالت النساء حتى في أكثر المجتمعات “تحضراً” تعاني من تمييز في التعامل، سواء في الأسرة  أم  العمل أم غيره.

لا يختلف الأمر في مجتمعاتنا، بل الثقافة العامة شديدة الاقتناع بتميز الرجل، ابتداءً من البيت حيث الطفل الذكر هو المفضل باعتباره يكفل استمرار العائلة وامتدادها، ويحق له ما لا يحق لأخته بمختلف النواحي، وهو الوريث الضامن لانتقال إرث الأسرة لأفرادها فقط دون تسرب إلى الفروع أوالغرباء، وهو سيكبر ليكون الرجل المعيل لأهله مادياً ومعنوياً، فيما ستتزوج البنت وتذهب لعائلة أخرى وغير مطلوب منها بهذه الحال أي مسؤولية تجاه أهلها إلا شيئاً من الرعاية إذا سمح زوجها. فإذا انتقلنا إلى المجتمع، الرجل هو السيد فيما المرأة تأتي بالدرجة الثانية، وغالباً ما تنحى القوانين بهذا الاتجاه حتى لو لم يتم الاعتراف بذلك، وإن تم فالحجة جاهزة وهي أن القوانين مستمدة من الشرع، والشرع لا يناقش، فيخال المرء أن تلك مشيئة الله تعالى، ولا يعلم أن من وضع هذا “الشرع” هم أناس مثلنا، فهموا من شرع الله ما تيسر لهم وفق ظروف مجتمعاتهم في الزمان والمكان.

وباعتبار أن الرجل هو القيّم فيحق له التحكم بالمرأة كما يريد، فإن أحسن لها فذلك خير، وإن أساء فسيجد فتوى ومبرر، وإن عنّفها لفظياً فهو رجل يتعرض لضغوط الحياة وعليها مراعاته، وإن عنّفها جسدياً فهي لا بد فعلت ما يستحق التعنيف، أما جنسياً فهي ملكه وله مطلق الحرية أن يتصرف بأملاكه كيفما يشاء، مع مراعاة الرفق بالقوارير.

قد لا تكون الصورة معتمة لهذه الدرجة، إنما تتراوح شدة العتمة وفق الظرف الاجتماعي والاقتصادي المرافق، والمشكلة تكمن في العقل الجمعي الذي ما زال متمسكاً بصورة نمطية ينسبها زوراً وبهتاناً للدين، و “رجل الدين” حاضر دائماً لتكريس تلك النظرة الدونية للمرأة، فتراه بين المزح والجد يصف المرأة أنها “تتحيون” عندما يكبر أولادها لأنها تحتمي بهم، وآخر أكثر تحضراً يجد في كونها ضلع أعوج ما يعطي للحياة جوانب إيجابية، فلو كانت مثل الرجل لما وجدا ما يختلفان عليه، وينصح الرجل ألا يحاول تقويم اعوجاجها لألا تنكسر.

من قال أن المرأة ضلع أعوج؟ التوراة قالت، وإن كنت أؤمن أن الله أنزل التوراة لكنني لست مضطرة لأن أؤمن بما جاء في كتاب أرسله الله لقوم بعينهم في زمن معين، بينما التنزيل الحكيم محتواه يقرأ وفق النقطة التي أنت بها اليوم بما تحمله من معارف، وهو الخاتم ككتاب مرسل من الله إلى يوم القيامة، والتنزيل الحكيم لم يقل أن آدم اضجع تحت الشجرة ونام وأخذ الله ضلع منه وخلق المرأة، بل على العكس هناك ما يوحي أن النفس الأولى كانت أنثى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (الأعراف 189) وحتى لو لم تكن أنثى فالخلق علمياً ابتدأ من خلية واحدة انقسمت وشكلت الذكور والإناث.

قد لا يجد القارىء الموضوع ذي أهمية، لكن فكرة أن الأنثى ضلع أعوج تشكل أساساً في النظرة إليها حتى من قبل المرأة ذاتها، فتراها مقتنعة أنها خلقت لمتعة الرجل وخدمته وهو متفوق عليها في شتى المجالات، وهذا وحده عنف بحقها.

ثم أن هناك أمر آخر من أساسيات العنف في غاية الأهمية، وهو اعتبار أن المقصود بـ “أولادكم” في كتاب الله هو الأبناء الذكور فقط، وهذا غير صحيح فالآية واضحة: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ –}(النساء 11) أي أن “أولادكم” تنقسم إلى ذكور وإناث، كلهم أولادكم، ووجود ولد أنثى يحجب الإرث عن الأعمام، كما الولد الذكر تماماً، والوصية هي بند أساسي في ما كتبه الله علينا، في حال عدم وجودها نلجأ إلى قوانين الإرث بكونها الحد الأدنى لما ستأخذه الإناث، علماً أن هناك قراءات لآيات الإرث تفهمها بوجهة نظر مختلفة عما تعارفنا عليه، لا يتسع المجال هنا لشرحها، إنما جديرة بالتمحيص.

واليوم أصبحت الأنثى عاملة وراعية كما الذكر تماماً، وقد لا تحتاج للاعتماد عليه ولا تطلب منه رعاية، وكلاهما يفترض أن يشتركا في الحقوق والواجبات.

الموضوع متشعب وبنوده لا تعد ولا تحصى، ورغم أن الله تعالى اختصر موضوع تفضيل الذكور على الإناث بقوله مستنكراً  {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} (النحل 58) إلا أن مجتمعاتنا الذكورية أبت إلا أن تجعل من الدين مطية لتمارس أشكالاً إضافية من العنف ضد المرأة، أو لتبرر ما هو موجود أيضاً في غيرها من المجتمعات.

خلاصة القول: “لا عذر”، وعلينا محاولة ترسيخ نظرة جديدة للمرأة، بحيث يمكننا القول ونحن واثقون أن الإسلام كرّم المرأة، وإلا فالصورة في واقع المسلمين مختلفة تماماً.