هالة القحطاني
هالة القحطاني
كاتبة سعودية

لنُبْقِ على هوية الوطن

آراء

في الوقت الذي تحرص فيه أغلب المدن الأوروبية على الاحتفاظ والاعتزاز بهويتها التاريخية، نجد كثيرا من المدن العربية والخليجية بالمقابل، تفخر بحداثة وتطور مُدنها و أبنيتها، بطمس ملامحها وهويتها العربية العريقة، واستبدالها بالطابع الأوروبي أو الأمريكي الحديث، فعلى سبيل المثال حين ترى صورة أو مقطعاً لمدينة مثل روما، ستلمس كمية اعتزاز شعبها بالهوية الرومانية، حيث تم استنساخ أبنيتها وعمارتها في كل مكان، فترى حجم الحرص على إبقاء روح روما التاريخية، من خلال عمليات الترميم والعناية التي تمنح لكل تفاصيل القلاع القديمة، والمنحوتات الأثرية، والأعمدة الرومانية وتيجانها، ناهيك عن إحياء المسارح والمدرجات، التي تعيد للأذهان تاريخ و عراقة العمارة الرومانية، فلا تتوقف على المكان بل تمتد للصور وعلى البطاقات والتحف التذكارية المطبوعة على كل شيء، وتنتشر في جميع المطارات والمحطات.

وإن كان ذلك شأن الحضارة الرومانية، فالإسلام استطاع بما يملك من فكر أن ينتج حضارة إسلامية وهوية شخصية فنية متكاملة، في العمارة والفنون وتخطيط المدن، تميزت عن غيرها من الحضارات ، إذ يتصف الفن المعماري والعمراني الإسلامي باستيعابه لكل المدارس التي سبقته، ولنا في حضارة الأندلس مثال حي.

ولأن المملكة تشرفت بتفرد في هويتها الإسلامية، حين حظيت أرضها باحتضان الحرمين الشريفين، وحظي أفرادها حكومة وشعباً بشرف خدمة حجاج بيته الحرام. أرى أنه لا يمكن أن نستمر أثناء عمليات التوسعة، أو التطوير من تغيير هوية مكة أو البناء المكي وألوانه، من أسقف و رواشين وزخرفة، كانت موجودة في منازل أهل مكة القديمة، التي تدل على ثقافة واستيعاب المجتمع المكي لكثير من القيم الفنية والجمالية، وإن كانت إزالتها متطلبا للتوسعة لخدمة واستيعاب ملايين المسلمين، من المفترض ألا يُطمس أثناء ذلك الموروث الفني و الجمالي الفريد الذي لا يوجد إلا في مكة، بل من الضروري استنساخ و تشييد نماذج مماثلة لكي تبقى مكة على هويتها التراثية. ومنذ فترة والأبنية تشيد حولنا، و ترتفع دون اتساق أو تناسب مع هوية المكان، فحين يتجول الزائر أو الضيف في الرياض مثلا، بالكاد يستطيع أن يلمس هوية اليمامة ونجد، أو يلمح تاريخ الدرعية، فحين يسلك أي طريق عام، سيختلط عليه الأمر لوهلة، ويحاول أن يتذكر أين رأى مثل تلك المباني التي تشبه مكانا ما في أوروبا، وربما تنافسها طولاً وفخامة ولكنها لا تحمل ملامح الرياض أو روح الجزيرة العربية. حتى مدينة جدة ، لم يبق من حضارتها وتاريخها المعماري الجميل سوى منطقة جدة التاريخية، مع أن كل تلك التصاميم الفنية في البيوت والمباني «من شيش ومشربيات» كان من الممكن أن تستغل، في أفكار مبتكرة لتطوير تصاميم الأبنية الحكومية أو الأماكن العامة والشوارع، لنبقي على هوية المكان. ولن نختلف بأن العمارة في المنطقة الجنوبية، تتميز أيضا بإرث ثقافي فني، تتنوع مدارسه وحضاراته مثل الحضارة العسيرية التي بقيت شاهدة على إبداع الإنسان في بناء البيوت هناك بجميع تفاصيلها، من نقش على الطين والحجر، و حتى الأبواب الخشبية التي تلفت النظر بدقة نقوشها. و في منطقة ثرية مثل الشرقية، تتعدد فيها الألوان التراثية من بداية الأحساء مرورا بالقطيف وسيهات وصفوى والخبر والدمام، لا تشعر فيها بأنك على الساحل الشرقي، إلا حين تقام مهرجانات وفعاليات العيد فقط، و لايوجد تخطيط هادف للمباني، يعكس تراث وتاريخ و هوية المنطقة، بل العمارة العشوائية تجعلك تشك أحيانا بأن المنطقة الشرقية لا هوية لها من الأساس.

كل منطقة في المملكة تزخر بتراث يميزها ويفردها عن غيرها من المناطق، ولكن لايوجد إلى الآن مبادرات تعني بإظهار و ترسيخ تلك الهوية. وأعتقد بأن عمل المهندس المعماري الآن أصبح لا يقتصر على الجودة فقط، بل على إبراز هوية المدن، وإن كنا لا نستطيع في مجتمعنا أن نجبر أصحاب المنازل على تصميم بيوتهم بطريقة تحمل تراث المنطقة، أصبح من الضروري أن تشجع الأمانات والبلديات على تنفيذ واجهات تحمل أبعادا تاريخية على الأقل للمباني الحكومية والأماكن العامة، نريد أن تحتفظ المنطقة الشمالية بتراثها والشرقية كذلك، و الغربية بملامحها وعمارتها الحجازية، وأن يبقى الجنوب على هويته بألوانه المبهجة، وتستمر اليمامة ونجد بحماية تراث الجنادرية والدرعية، وعدم الاكتفاء بحصره في أماكن وقرى سياحية فقط، نحن بحاجة إلى إعادة النظر في تخطيط المدن بطريقة أكبر لترسيخ الهوية التراثية والتاريخية، ونطمح أن تتحول الميادين والشوارع الرئيسة إلى معرض ومتحف ثابت، يحمل هوية المنطقة ويضيف لجمالها، إذ لا توجد في الوقت الحالي أعمال فنية تذكر في الميادين الضخمة التي تنتشر في كل مكان في المملكة، وأعتقد بأنه آن الأوان أن تتزين بمجسمات مصغرة للقلاع التاريخية، والجدران والنوافذ والأبواب القديمة التي يزخر بها هذا البلد.

المصدر: الشرق