ياسر حارب
ياسر حارب
كاتب إماراتي

ماذا كل هذه المثالية؟

آراء

بقلم: ياسر حارب

عندما كان سقراط يطرح الأسئلة المحيرة على الناس في طرقات أثينا وساحاتها، كان (السوفسطائيون) الذين يوصفون بأنهم «محبو الجدل» ويناقشون الناس في كل شيء بهدف تعليمهم، يقولون إن القيم الاجتماعية والأخلاق الإنسانية نسبية، وليست مطلقة، أي أنها تتغير بتغير الوقت والحاجة، فالكذب الذي يعد عملاً منبوذاً، قد يكون محموداً، في عرفهم، عندما تدعو الحاجة إليه. إلا أن سقراط هاجمهم بكل ما أوتي من حكمة قائلاً إن القيم والأخلاق مطلقة في كل الحالات والظروف، ولا يمكن تجييرهما تبعاً لأهواء البشر ونزعاتهم السلطوية، حتى اتُهِمَ بعداوة الآلهة وأُعدم، إلا أن موته كان إيذاناً بولادة فلسفة إنسانية جديدة ما زلنا نقتبس من نورها الكثير.

فهل كان سقراط مثالياً في طرحه؟ أم كان السفسطائيون عقلانيين في كلامهم؟ لقد نادى الأنبياء والفلاسفة والمصلحون، عبر التاريخ، بالتمسك بالقيم السماوية التي تجعل المجتمعات أكثر استقراراً وسلاماً، وكان معظم ما نادى به هؤلاء المصلحون يفوق مقدرة البشر على تطبيقه بحذافيره، ففي عهد الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ الذي يوصف بأنه عصر ذهبي، زنت امرأة متزوجة وحملت سفاحاً، في مجتمع صغير جداً، وسرقت امرأة أخرى، وخان المنافقون عهودهم مع المسلمين، حتى وهم يُصلون معهم في مسجد الرسول. كل ذلك والقرآن كان ينزل بين ظهرانيهم تباعاً، والوحي يهبط بين الحين والآخر، أي أن الإيمان كان لا يزال «طازجاً» حين ارتُكِبَت تلك الآثام والكبائر، إلا أن النبي ظل يحذر من الزنا والسرقة والنفاق، فهل كان مثالياً؟

أما نوح عليه السلام فلقد عاش بين قومه تسعمئة وخمسين سنة لم يؤمن له إلا عدد قليل منهم، وخرج لوط من قريته عندما جاءه أمر الرحيل بابنتيه فقط، فحتى زوجته كانت من المعذَبين، بينما غضب يونس من قومه سريعاً وتوعدهم بالعذاب وخرج إلى البحر يائساً من هدايتهم، فهل كان نوح ولوط مثاليين وكان يونس واقعياً؟

لقد كان كارل ماركس حانقاً على الدين؛ حيث قال: «سوف أُنْسي الناس الله بالمسرح» ثم نجح في نشر الشيوعية في شرق العالم وغربه، وعزز الفكرة المادية التي ترفض تفسير أي ظاهرة كونية أو نزعة بشرية تفسيراً روحانياً، حيث كان يعتقد بأن الدين، الذي أدرجه تحت الفلسفة المثالية، غير واقعي في أطروحاته، ويُغفل التناقضات التي تمتلئ بها نفوس الناس وتضج بها الحياة، ولكن الغريب هو أنه فَوْرَ سقوط الاتحاد السوفييتي عادت الكنائس إلى العمل من جديد، واكتظت أيام الآحاد بالناس أنفسهم الذين كانت تخلو منهم قبل أشهر من انتهاء الحكم الشيوعي. فهل كان ماركس واقعياً وكانت التعاليم السماوية مثالية؟

يتهمني كثير من الناس بأنني مثالي في حديثي حول القيم والممارسات، وبأن الأفكار التي أطرحها لا يمكن تطبيقها! نعم، أعلم بأنه لا يمكن تطبيقها «كلها»، ولكن الهدف من الدعوة إلى القيم هو دفع الناس للالتزام بما يستطيعونه منها، وليس الهدف أن يتحول البشر إلى رهبان وقديسين. كلّنا نتعرض إلى لحظات ضعف وانكسار في حياتنا، ونمارس أحياناً عكس ما نقول، ليس لأننا لا نؤمن به، ولكن لأنها طبيعتنا الإنسانية التي وضعها الله تعالى فينا، والتي تتجاذبها الأهواء من حين إلى آخر، ولكننا نعود في لحظة ما، وهي لحظة الحقيقة، ونشتاق إلى فعل الصواب وممارسة القيم العُليا التي نشأنا عليها.

علينا أن نكون مثاليين في الطرح غَيْر مثاليين في التطبيق، فعندما جاء النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ الرهط الثلاثة الذين لا يفطر أحدهم، ويقوم الآخر كل الليل، ويعتزل الثالث النساء، رفض مثاليتهم التطبيقية، وأكد أن ممارساته اليومية لا تصل إلى ذلك الحد من التزمت والمبالغة في ممارسة شعائر الدين!

عندما يدعو أحدنا إلى التفاؤل فإن ذلك لا يعني بأن العالم وردي من حوله، ولكنه يسعى لمنح الآخرين بصيص نور في الأنفاق المظلمة التي يسلكونها كل يوم. أرسلَتْ لي إحداهن رسالة تقول فيها إن ابنتها كانت معاقة ومتشائمة، وبعد أن قرأت كتاباً يطرح تأملات إيجابية في الحياة، صارت أكثر تفاؤلًا عن ذي قبل. قد لا يغير التفاؤل الحياة من حولنا، ولكنه كفيل بتغييرنا، وقد تظل تلك الفتاة معاقة طوال حياتها، ولكنها استطاعت بفضل كلمات «مثالية» أن تغير نظرتها لنفسها وللعالم من حولها، وبدأت تتفاعل مع المجتمع كعضو فاعل فيه، لا عالة عليه.

كل الدعوات الإصلاحية والتطويرية في التاريخ كانت تبدو مثالية جداً، ولكن لأنها كانت كذلك، استطاعت أن تدفع الناس للعمل أكثر وللإيمان بغد أفضل. إن الإنسان مليء بالتناقضات المربكة، ولأنه كذلك، فإنه في سعي دائم بين الصواب والخطأ، يسافر بينهما بحثاً عن ذاته وعما يشعره بالأمان النفسي والروحي، ولذلك كانت القيم والمثل العليا بعيدة المنال؛ حتى يظل الإنسان في سعي دؤوب للوصول إليها، وعلى رغم قناعته وأدلة التاريخ التي تثبت أنه لن يصل إليها، إلا أن سعيه ذاك يؤكد له أنه بشرٌ وليس ملاكاً، وستظل المثاليات التي نقرأها ونسمع عنها خط عودة إلى الفضيلة، وباباً يُفْضي إلى التصالح مع الذات، عندما تُغلق الحياة أبوابها في وجوهنا.

نشرت هذه المادة في جريدة “البيان” الإماراتية بتاريخ 26 نوفمبر 2011