عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
ما كانت الضغوط على الإسلام السني وعلى الدول العربية قليلةً قبل ظهور «القاعدة» وبعدها. وهي الضغوط التي كانت وراء المسارعة بالدخول في الحرب العالمية على الإرهاب عندما وقعت الواقعة. ومع ذلك فإنّ المراقبين العرب والمسلمين، كما انصرفوا مذهولين إلى تتبُّع أسباب جاذبية «القاعدة»، ينصرفون اليومَ من جديد إلى تعليل أسباب جاذبية «داعش» لدى فئاتٍ من الشبان بمشارق العرب ومغاربهم.
لقد كانت أبسط حُجج أعداء «القاعدة» القول إنها استجابةٌ لطبيعة الإسلام الأصلية. وهذا معنى مقولة الخطر الأخضر وصدام الحضارات. وبالطبع أمكن ويمكن لأصحاب هذه المقولة أن يجدوا وقائع من الماضي والحاضر. بيد أنه إلى جانب الأصل الديني المُدَّعى؛ فقد كانت هناك تلك «الثقافة» الناشئة عبر أكثر من قرنٍ ونصف القرن في الحض على كراهية الغرب ومُعاداته. ولا فرق في ذلك بين اليمين واليسار والإسلاميين والقوميين!
إنّ الكراهية الأصلية لأسباب دينيةٍ وتاريخيةٍ ونفسية هي التي تُعلِّل – في نظر هؤلاء – ردّة الفعل غير العادية، من جانب فئاتٍ من شبان العرب والمسلمين، على طرائق عيش الغربيين، وطرائق تصرفهم في ديار العرب والمسلمين طوال أكثر من قرنين. فالاستعمار ما نال من العرب (والمسلمين) فقط؛ بل نال بشواظه شعوب آسيا الكبرى وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ومع ذلك فإنَّ أحدًا ما فكر من تلك الشعوب، بشنّ حربٍ أو حروبٍ عشوائية على المدنيين الغربيين لأن أسلافهم استعمروا الهند والصين، أو فتكوا بملايين الأفارقة واستعبدوا ملايين أخرى!
وزاد من قوة هذه الحُجج رغم أهوال الاستعمار الغربي التي لا يمكن إنكارها، وإنعام الغرب علينا بإسرائيل؛ أنّ هؤلاء القاعديين ما لبثوا أن انصرفوا إلى قتل العرب والمسلمين الآخرين في موجات عنفٍ فظيعةٍ دمَّرت بلدانًا مثل الصومال، وهدَّدت بلدانًا أخرى بالدمار مثل أفغانستان وباكستان. وبذلك فإنّ المسألة لا تقتصر على الأصوليات العنيفة التي ظهرت في الدين، بل تتعداها إلى العلائق بالحضارة وإنسانية الإنسان، والعجز عن إقامة الدول المنتظمة، والعيش في مجتمعاتٍ تسودُها الأُلفةُ وحواراتُ التجاوُر وإيثار السلم بالداخل ومع الخارج.
بيد أنّ هذا المذهبَ في فهم أسباب العنف باسم الدين، ما ثبت طويلا. فبعد غزوة «القاعدة»، وغزوات أفغانستان والعراق بأربع أو خمس سنوات، سارعت الولايات المتحدة، ودول أوروبية، إلى إنشاء منظمات لحوار الحضارات أو ائتلافها. وظهرت دراساتٌ كثيرةٌ عن «عادية» هذا العنف رغم شذوذ بعض مظاهره وظواهره.
وما استبعد دارسون جديون أن تكونَ شذوذات العنف عائدةً إلى تلاعب الأجهزة الاستخبارية، والاختراقات، التي سعّرت التوترات الطائفية والمذهبية والإثنية. ورأى كثيرون لإسرائيل أدوارًا مشهودةً في كل ما جرى. أما العرب والمسلمون من جانبهم فقد اندفعوا في الاستجابة لحوارات الحضارات، وتحدثوا عن التجربة التعددية الأندلسية، وعن الطبيعة السمحة والمسالمة للإسلام.. وما نسوا المظالم الهائلة للاستعمار، والاكتساح الصهيوني المستمر منذ سبعة عقود؛ في زمنٍ انتهى فيه كل الاستعمار في العالم!
وقد بلغ من خمود موجة الإدانة أو تراجُعها الكبير على الأقلّ؛ مُسارعة الغربيين للترحيب بحركات التغيير العربية، باعتبارها دليلًا على انتهاء الاستثناء العربي، والاستثناء الإسلامي. فالعرب مثل غيرهم من الشعوب يستطيعون – في الظروف العادية – القيام بالتغيير بشكلٍ سلمي ومنتظم. ويتابع التعذيريون هؤلاء أنّ ما لم ننتبه إليه أنه مرت على العرب ديكتاتوريات وطغيانيات ما عرفتها الشعوب الأخرى ولو في المنام، وهذا يعلِّل جزئيًا العنف الساطع في هذا السياق أو ذاك!
لكنّ ظهور «داعش» بهذه الطريقة الصاعقة، جدَّد ذكرى هجمة «القاعدة» على نيويورك وواشنطن كأنما قد حصل ذلك بالأمس. وفي حين كان كلُّ أحد في زمن بن لادن يستطيع (وإن بصعوبة) أن يجد لذاك العنف العنيف معنى سياسيًا أو إنسانيًا؛ فإنّ عنف «داعش» مثل عنف الزرقاوي من قبل هو عنفٌ أسود وإبادي وعبثي ولا يمكن فهمه أو تعليل بالفعل. فالزرقاوي (2005 – 2006) و«داعش» (2013 – 2014) وحدهما قاما ويقومان بهذا القتل المشهدي والعلني (= قطع الرؤوس) مثلما كان الفرنسيون يفعلون بالجزائر في ثلاثينات القرن التاسع عشر، والطليان بليبيا في عشرينات القرن العشرين. بيد أن الأكثر مشهديةً – إذا صحَّ التعبير – هو ربط هذا العنف الفظيع بمؤسسةٍ سياسيةٍ يملك العرب والمسلمون في وعيهم ذكرياتٍ حسنةً عنها هي الخلافة! وهذا الأمر مختلفٌ عن ظواهر العنف التي تصاحب قيام الدول عادةً أو تغيير الأنظمة بعد الثورات؛ مثل الثورة الفرنسية والثورة الروسية والثورة الإيرانية. وذلك لأن «داعش» تعتبر هذا العنف عنفًا شعائريًا إذا صحَّ التعبير وأن الدين ناقصٌ ولا يكتمل إلاّ بهذا العنف. بمعنى أنه جزءٌ ضروري في الدين. ويشمل هذا «الحرام» أو «المقدَّس» انتهاك المقدسات الأخرى أو مقدسات الآخرين، كما يشمل اعتبار السلطة تحت هذا الاسم (الخلافة) ركنًا من أركان الدين. وكل تلك الفظائع ما عرفها المسلمون خلال تجربتهم التاريخية، كما لم يعرفوها في عز مكافحتهم للاستعمار خلال القرنين الآخرين!
لقد قلت في دراساتٍ صدرت خلال الخمسة عشر عامًا الأخيرة، وآخِرُها قبل أشهر؛ إنّ إعادة إنتاج «الخلافة» ليست عودةً للتقليد الديني أو السياسي؛ لأن السلطة عند أهل السنة مصلحيةٌ وتدبيريةٌ وليست إمامةً لا يصحُّ الدين إلاّ بإقامتها. وهذا صحيحٌ من الناحية التاريخية ولا شكّ. وأما وقد صار النظام السياسي ركنًا من أركان الدين، فإنّ ذلك يقلب الأمور رأسًا على عقب؛ إذ يهدّد الدين والمجتمعات، لأنه يُدخلُ الدين في بطن الدولة، بحيث ينهمكُ في الصراع على السلطة بوهم التحقق الذاتي ويتشرذم ويسقط.
إنّ هذا كلَّه صحيح. لكنْ تبقى الوقائع. لقد أمكن للإسلاميين سنةً وشيعةً وخلال عقودٍ قليلةٍ التلاعُبَ بمفاهيم دينية أساسية. واستخدامها تحشيدًا من أجل الوصول للسلطة. وهم لم يتورعوا في سبيل الوصول للسلطة عن قتل الناس باسم الدين، وبأعدادٍ هائلة. ومما يزيد الطين بلَّةً أنه كما حدث عام 1979 – 1980 (في احتلال الحرم المكي)، حدث مثله عام 1979 بإيران، وعام 2001 بنيويورك، وعام 2005 – 2006 بالعراق، وخلال الأعوام الماضية من طريق «بوكو حرام» بنيجيريا، والتنظيمات الأخرى في غرب أفريقيا. فهي موجاتٌ متكررةٌ ومتصاعدةٌ من العنف باسم الدين، وهي تملك جاذبيةً بين فئاتٍ من الشبان بالعالم العربي وغيره، وفي الجيل الثالث من أبناء الجاليات والمهاجرين. فلا يصحُّ الاستخفاف أو الإعذار. بل هي الوقائع العارية: نحن مهدَّدون في ديننا وأوطاننا وأخلاقنا وإنساننا. وفائدة «داعش» وأمثالها – ولا فائدة لها أصلًا – هي الكشف عن هذا الداء العياء الناشر للعدوى، داء التطرف باسم الدين، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
المصدر: الشرق الأوسط