محمد خليفة بن حاضر.. العروبي حتى النخاع

منوعات

د. شهاب غانم

في السبعينيات من القرن الماضي كنت كثيراً ما أنشر قصائدي في مجلة أخبار دبي الأسبوعية كما كان ينشر فيها عدد من الأصدقاء أمثال الشعراء الإماراتيين أحمد أمين المدني وحمد خليفة بوشهاب “رحمهما الله” وسلطان خليفة وعارف الشيخ والشاعر المصري عبدالمعم عواد يوسف “رحمه الله”. ثم توقفت المجلة عام 1980 وحلت محلها مجلة أصغر منها بعنوان نشرة أخبار دبي لم تستمر طويلاً كما بدأت في الصدور في نفس الوقت صحيفة البيان في دبي. وفي عام 1982 اقترحت على صديقي الشاعر سلطان خليفة أن ننشئ أنا وهو مجلة ثقافية. وكانت لدي بعض الخبرة في مجال التحرير إذ كانت إدارة كلية عدن اختارتني ضمن فريق تحرير “مجلة كلية عدن” السنوية منذ كنت في الصف الثالث الثانوي عام 1957 وحتى أنهيت السنة السادسة عام 1960 والتحقت بالجامعة. وكانت المجلة تطبع وتوزع على كل طلبة الكلية وأساتذتها وكنت أكتب فيها بالعربية والإنجليزية وأساهم في تحريرها.

استحسن الشاعر سلطان خليفة الفكرة فذكرها لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي الذي شجعها في الحال كعادته في تشجيع المبادرات الإيجابية، وأشار بأن نصدر المجلة من خلال ناديه (النادي) وحدد بعض الأسماء للإشراف على المجلة بالإضافة إليّ وإلى سلطان وكان على رأس تلك الأسماء الشيخ أحمد بن سعيد رئيساً للتحرير والشيخ حشر المكتوم والشاعر الإماراتي محمد خليفة بن حاضر. فاجتمعت اللجنة جلسات عديدة لتبلور الفكرة، واقترح سلطان خليفة “المنتدى” عنواناً للمجلة وعرضت اللجنة عليّ تولي إدارة التحرير ولكني اعتذرت بسبب انشغالي بوظيفتي كمدير لمصانع الإترنيت ولكن جهزت العددين الأوليين بالاستعانة بلجنة فنية كان من ضمنها عبدالمنعم عواد ووائل الجشي وعمر الديسي وعمر أبوسالم وسيف محمد المري الذي كان يومها طالباً في الجامعة. وفي هذه الأثناء استقدمنا الصحفي المصري إيراهيم سعفان للعمل مديراً للتحرير.

وقد ساهم الشاعران محمد بن حاضر وسلطان خليفة بقصائد فصيحة ونبطية في كثير من الأعداد. وفي العدد الثالث الصادر في أكتوبر 1983 نجد قصيدة لمحمد بن حاضر بعنوان “أنت يا قلب قد أسرت طموحي” توضح الفكر العقلاني الذي كان يتحلى به الشاعر ووضوح رؤيته في كيف يمكن أن تكون نهضة الأمة، وهو الموضوع الذي كان يشغل باله في كثير من قصائده ومقالاته وخلال سنوات عمره التالية. ومن القصيدة:

إن عصراً لا عقل يهدي بنيه

هو حتما إلى الفنا والنفاذ

نتلهى عن العلى بأمور

جلها من سفاسف الأضداد

ونباهي سراً وجهراً شعوباً

سبقتنا بالجد والاجتهاد

هم بعلم تقدموا وعلينا

شددوا قبضة بكل عناد

عمّدوا الفكر في الأساس بشورى

دون نكر لحاجيات السواد

وتساووا في الخير والشر لما

حكّموا العدل بينهم باعتداد

إيه قومي.. هل من مجيب لسؤلي

ما عسانا نقول للأحفاد؟

أين منا غداة كرّ وفرّ

وليوث على ظهور الجياد

جابت الأرض خيلهم والمطايا

ينشرون السلام في كل واد

لم تخفهم جموع فرس وروم

رغم نقص بعدّهم والعتاد

صداقة الشعر

نشأت بيني وبن حاضر صداقة حميمة عمقها الشعر وهموم الأمة وعلاقتنا بالمنتدى. وقد سافرت في فبراير 1985 إلى بريطانيا لدراسة الدكتوراه في الاقتصاد والتنمية الصناعية في جامعة كارديف بعد أن قدمت استقالتي من وظيفتي بدبي، وفي هذه الأثناء لعب بن حاضر دوراً رئيساً في إنشاء ندوة الثقافة والعلوم مع الأصدقاء الأدباء: محمد المر وعمران العويس وإبراهيم بو ملحة وسلطان صقر السويدي والدكتور سعيد حارب وبلال البدور وعلي عبيد وسيف محمد المري وخالد محمد أحمد وعبدالغفار حسين وعدد من المثقفين البارزين في الإمارات وكان بعضهم يتواصل معي من خلال الرسائل.

وعندما عدت في إجازة أثناء فترة الدراسة الدكتوراه طلب مني الصديق محمد المر وبعض الأعضاء أن أنضم إليهم ففعلت. وكان من أقرب الأصدقاء إليّ في الندوة محمد بن حاضر نائب رئيس الندوة. وعندما منحت الدكتوراه أوحت إلي التجربة بقصيدة عنوانها “هو الحب” وما أن اطلع عليها محمد بن حاضر حتى أصر على أن انشدها في حفل جائزة راشد للتفوق العلمي الذي كرمت فيه، وكانت السنة الثانية التي يقام فيها الحفل في عام 1989 وأظنه كان اكبر حفل في تاريخ الجائزة، إذ كرم فيه عدد كبير من حملة الدكتوراه أمثال: صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، ومعالي الدكتور الشاعر مانع سعيد العتيبة الذي كان قد حصل على الشهادة قبل ذلك بسنوات، ومعالي الدكتور سعيد سلمان، إلخ، وقدم الجائزة المغفور له الشيخ مكتوم بن راشد.

وكنت أتواصل مع محمد بن حاضر هاتفياً ويقرأ علي قصائده وقد ترجمت قصيدته العمودية أي البيتية الشكل “قصر زعبيل” ونشرتها في “الخليج تايمز” ثم في كتابي “قصائد من الإمارات” الذي نشرته وزارة الثقافة وتنمية المجتمع ويحوي ترجمات إلى الإنجليزية لقصائد لنحو ستين شاعراً وشاعرة من الإمارات ومنها:

قصرَ زعبيلَ قد أطلنا الوقوفا

نسألُ الصّحبَ تارةً والضيوفا

نسألُ اليوم عن مُحيّا عظيمٍ

وكرامٍ قد ألبسونا الشفوفا

قصرَ زعبيلَ ما عهدناكَ إلاّ

مُشْرِقاً كالنهارِ طلقاً لطيفا!

وعهدنا فيكَ الرجالَ الأُلى هُمْ

شيّدوا للزمان مجداً منيفا

كما ترجمت قصيدته التفعيلية الشكل “لا تحلم” ومنها:

أَوَ تحلمِين بعودةٍ.. لا تحلمي

ردِّي عليّ تكلّمي.. لا تندمي

إن الدَّمَ المهرَاقَ، فوق سناءِ آمالي دَمي

لا تحلمي بالصبح يشرقُ من مُحيَّا الأَنجُمِ!

وبن حاضر شاعر جيد في كلا الشكلين العمودي والبيتي وفي شعره جزالة ورقة في آن واحد. وقد نشرت تلك القصيدة مترجمة في كتابي “قهوة وتمر” الذي نشره اتحاد أدباء وكتاب الإمارات، ونال جائزة معرض كتاب الشارقة من يد حاكمها المثقف صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة.

مجلس للفكر

وكان بن حاضر من الرجال القلائل الذين يتصدون لحل مشاكل الناس؛ فكان الناس كثيراً ما يقصدونه للعون. وكنا نلتقى في التسعينيات أحياناً في مجلس صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد نائب رئيس الدولة حاكم دبي، كما كنت أزوره في فندقه القديم ثم في منتجعه المارينا، وله مجلس صباحي في زاوية في الصالة يحضره عدد من المثقفين ويقرأ عليهم بن حاضر آخر ما كتب من شعر (وبعضه ليس للنشر ولكن فقط لآذان الأصدقاء) كما يقرأ مقتطفات من بعض مقالاته التي كان ينشرها في موقع إيلاف أو صحيفتي الخليج والبيان أومجلة دبي الثقافية ويناقش هموم الأمة بحماسته المعهودة. كان عروبياً حتى النخاع وغيوراً على اللغة العربية، وكان وطنياً غيوراً. وقبل وفاته بأيام اتصل بي ودعاني للغداء معه في منتجعه المارينا وكان عنده صديقه الحميم الإعلامي السعودي د سليمان الهتلان والصديق اليمني أحمد الكبسي ومهندس سوري من أسرة الشيشكلي وهو ابن أخ أحد الرؤساء السوريين السابقين، فتغدينا معا وفي أثناء اللقاء أشاد بن حاضر بكتابي الجديد “صفحات من الأدب المعاصر في اليمن” قائلاً إن الكتاب كشف له معلومات كثيرة كان يجهلها عن رجال النهضة في اليمن وخصوصاً في الجنوب أمثال: محمد علي لقمان وعرف من خلال الكتاب أن والدي كان أول خريج جامعي من جامعة حديثة في الجزيرة العربية.

وكان لمحمد بن حاضر مجلس رمضاني حيوي كنت أزوره عدة مرات كل رمضان، وكان مجلسه في بداية الأمر في خيمة قريبة من منزله ثم بنى مجلساً جميلاً بجانب منزله يكرم فيه ضيوفه ويخدمهم بنفسه ولا يكاد يجلس لتناول الطعام. وكان يسمعني آخر ما كتب وكنت ألح عليه أن يجمع شعره في ديوان واقترحت عليه أن يوكل مهمة جمع الديوان إلى أديب قدير مثل الدكتور غازي طليمات فوعد أن يفعل، وكنت في السنين السابقة عندما أقترح عليه جمع الديوان لا يبدي حماسة كبيرة ولكنه في السنة الأخيرة بدا مقتنعاً وأظنه أرسل القصائد بالفعل للدكتور طليمات وعسى أن نرى ديوانه قريباً. وعندما توفي بن حاضر كنت في باريس واتصلت بي صحيفة البيان وصدمتني بالخبر إذ كنت معه في دبي قبل وفاته بأيام. وقد كتبت بعد ذلك قصيدة رثائية بعنوان “دمعة على محمد بن حاضر” في يوليو الماضي أقتطف منها:

في عاصمة النور/ انطفأ سراج/ لدبيٍّ وهاج/ كان بشعلات الشعر يمور/ فاشتد الديجور

***

يا صديقي الذي كان ينبض/ بالوطنية والشعرِ/ وكان يهيم بأستاذه/ صاحب الخيل والليل/ والرمح والحبر/ وقد كان يغضب للعربيةِ/ صاحبة السحر/ وكان يؤرقه الظلمُ/ في أرض يعرب،/ كل ذاك التخلفِ/ كل الفساد/ يذل العباد

في كل تلك البلاد/ فينطق..ينظم../ يكتب شعراً..ونثراً

لعل الحروف/ تحرك ما هو شبه الجماد.

المصدر: الاتحاد