محمد الرميحي
محمد الرميحي
محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت

مسلمو أوروبا والعودة إلى عاصمة الخلافة

آراء

مدينة برمنغهام هي ثاني كبرى المدن البريطانية بعد العاصمة لندن، بل هي العاصمة الثانية في غرب وسط الجزيرة البريطانية، وتطير إليها شركات طيران مباشرة من الشرق الأوسط والقارة الهندية، وفيها أكبر جالية آسيوية (تبلغ نحو 20 في المائة من قاطنيها)، السواد الأعظم منهم مسلمون، وهي مدينة أيضا تشتهر بأنها تحتضن أفضل المؤسسات التعليمية، خاصة الجامعية، وكذلك المدارس الحكومية، التي تسمى في بريطانيا (المدارس الخاصة)، وهي تسمية تاريخية. مدارس برمنغهام اليوم تحت الاستقصاء من قبل الحكومة البريطانية، لأن عددا من مدرسيها متهمون من المواطنين بأنهم يشيعون أفكار (الكراهية) – وهو تعبير محسّن عن (أفكار إرهابية)، كما يعزلون الطلاب عن الطالبات، وهو مظهر لا تقره قوانين التعليم. تنتشر أيضا في هذه المدينة مدارس تسمى (إسلامية) وهي مدارس خاصة تأخذ بالمنهج الحكومي العام في المواد العامة، ولكنها تقدم برامجها الخاصة – كما تقول – من أجل تعلم النشء المسلم الحفاظ على هويته المسلمة خوفا من الضياع في محيط مجتمع علماني مثل المجتمع البريطاني. إذا عطفنا كل ذلك على إنشاء لجنة برلمانية بريطانية للنظر في موقع حركة الإخوان المسلمين ونشاطها السياسي، خاصة أن هناك اشتباها في قيام الحركة بأنشطة إرهابية في بريطانيا، الأمر الذي ردت عليه الحركة بتهديد مبطن وأنها مستعدة للدخول في معركة قانونية وسياسية على الأرض البريطانية، فإن بوضع الملفين بعضهما مع بعض (المدارس و«الإخوان») تبرز لدينا على السطح قضية من أهم القضايا التي تواجه المجتمعات الأوروبية، وخاصة المجتمع البريطاني المنفتح والتعددي، وهي: هل تتصاعد صراعات الهوية في أوروبا حتى تصل إلى مرحلة ينمو فيها اليمين الأوروبي ويتذمر من القادمين الذين يريدون أن يغيروا الثقافة، خاصة إذا نجحت الخلطة السامة المكونة من عسر اقتصادي ونسبة بطالة مرتفعة وفقر، مخلوطة باستفزاز ثقافي يمكن أن يستقطب الغلاة، فيكون الآخرون الغرباء، وخاصة المسلمين، أهدافا طبيعية للانتقام المعنوي وربما المادي، خاصة إن كان الغرباء هؤلاء يصرون على العزلة الثقافية المؤسَّسة على أفكار اعتزالية. أصحاب المدارس الإسلامية الخاصة في برمنغهام وفي غيرها من المدن البريطانية يرون أنها بديل آمن من شرور المجتمع الغربي، وتراها شرائح أخرى في المجتمع مكانا للعزلة والتنفير من الآخر وعدم رغبة في الاندماج تؤسس لعزلة ثقافية، ومن ثم مجتمعية، تعرض المجتمع للمخاطر.

عندما نتحدث عن المسلمين في أوروبا فنحن نتحدث عن عدد من الشرائح، منها الأكبر والأهم القادمة من بلدان إسلامية عربية أو غير عربية، والأخيرة هي الشريحة الأكبر، كما نتحدث عن بريطانيين أو أوروبيين اعتنقوا الإسلام لأسباب وظروف خاصة بهم. يطلق المسلمون على مدارسهم في برمنغهام (مدارس الهجرة)، وهو مفهوم يتكئ على فكرة الهجرة من الضلال إلى الهدى، التي هي فكرة قديمة تجددت مع هجرة المسلمين الباكستانيين إبان انشطار الهند إلى دولتين، الهند وباكستان، فأصبحت الهجرة لها مضامين نفسية وعاطفية وأيضا سياسية.

يأخذ الموقف الرسمي البريطاني، وخاصة الشعبي، موقفا نقديا تجاه هذه المدارس وما يمارس فيها. ويوافق كثيرون على أنها بالفعل تلتزم المنهج الوطني الموضوع في كل الوثائق المتاحة للتفتيش العام، ولكن الشكوى من المدرسين الذين يقوم كثير منهم بحشو أدمغة الطلاب بأفكار ومقولات تؤدي إلى التعصب ضد الآخر، كما أن هذه المدارس تقيم المعسكرات والندوات التي لا منهج يضبطها ويقال فيها كلام هو من قبيل الاستناد إلى التاريخ الإسلامي ولكنها منتقاة، لتأكيد التعصب ضد الآخر في الوطن، فهيئة التدريس هي محط الشكوى لا المناهج المكتوبة.

هنا، يمكن أن نضيء على الموقف من تاريخ المسلمين، فهو تاريخ يقدم للطلاب مفرغا من محتواه الحضاري؛ قصص وأحاديث كما هي في مناهج كثير من الدول الإسلامية، لا تغوص في البعد الحضاري للإسلام، إنما تقدم العام والسطحي، وهو أمر لم ينشغل مسلمو اليوم به بشكل جدي، كما أن فهم غير العرب المعاصرين للإسلام يشوبه شيء من الرمادية لسببين: قلة معرفة باللغة العربية، واعتمادهم شبه الكلي على أدبيات تعتنقها وتروج لها تنظيمات الإسلام الحركي الحديث، (التزاوج بين الإسلام الأعجمي والإسلام الحركي)، أي إنهم لم يتابعوا تطور التفكير من مدارس الاستحسان إلى الاستصلاح التي انتهت بمدرسة المقاصد الإسلامية الشرعية التي ترى المواءمة بين الواجبات الدينية ومطالب حياة العمران، كما أصّلها العالم الحنبلي نجم الدين الطوفي، حيث قال: (إذا تعارض النص والمصلحة في غير الاعتقادات والعبادات، قدمت المصلحة على النص)، وهو قول نابع من حديث للرسول (لا ضرر ولا ضرار)، أي إن رعاية المصلحة هي الأولى أن يهتم بها المسلمون، وتعني تغير الأحكام مع تغير الزمان والمكان، ومن مصلحة المسلمين في أوروبا أن يتعايشوا مع المجتمع الذي اختاروا أن يقضوا وأبناؤهم حياتهم فيه، خاصة إذا أرادوا ألا يقف حجر عثرة أمام عباداتهم.

حقيقة الأمر أن الموضوع اختلط كثيرا عندهم إلى درجة أن برمنغهام أصبحت الأرض التي تصدر المتشددين، من سوريا إلى الصومال، وقد نشرت الصحف البريطانية في وقت سابق شريطا مفرغا تفخر فيه حركة الشباب المجاهدين في الصومال بأنها حولت المدينة إلى ساحة تجنيد وبالصور، وتصاعد الأمر إلى أن يقتل أحدهم في وضح النهار جندياً بريطانياً، فيما عرف في الأدبيات (هجوم وولش)، وكان القتل أمام الناس وانتظر القاتل قدوم الشرطة أيضا! كما اشتركت فتاة غربية (مسلمة) في هجوم على مركز تسوق ويست غيت بكينيا في سبتمبر (أيلول) الماضي.

مدارس الهجرة كانت تنظم زيارات لطلابها إلى مدينة دمشق في الزمن الماضي، على أنها زيارة إلى عاصمة الخلافة في وقت ما من التاريخ، فليس مستغربا والأمر كذلك أن يعود معظمهم في صورة متطوعين لتحرير عاصمة الخلافة والاشتراك في القتال. في مقلب آخر، تبين أن هناك مجاهدين ألمانا أيضا، بنوا أفكارهم على كتابات مبتسرة للزرقاوي، كما كتب أحد الدارسين الألمان، جود شتنبرغ في كتابه «الجهاديون الألمان.. عولمة الجهاد الإسلامي 2013». أصبح هذا التعلق شبه المرضي بهوية تاريخية مشوهة لدى كثير من المسلمين الأوروبيين إلى درجة أن شركة في برمنغهام قررت أن تنتج مستحضرات تجميل حلالا! بل قالت إحدى الغربيات التي أسلمت مؤخرا في تصريح للصحف: «هل سلم المسلمون الأوائل أبناءهم لغير المسلمين لتعليمهم»؟ ومثل هذا الفهم يبين مدى الأفكار الشوهاء وحتى السطحية التي يعتنقها البعض كونها من الإسلام، فينتج ضرران؛ الأول: سهولة تجنيد الأطراف المتشددة شباب هذه التجمعات. والثاني: تشويه الدين الإسلامي لأغلبية مسلمة ترى أن ذلك الغلو ليس من الدين.

آخر الكلام:

(ذلك مبلغهم من العلم)

المصدر: الشرق الأوسط