د. أحمد يوسف أحمد
د. أحمد يوسف أحمد
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

معضلة الدولة العربية

آراء

عقد المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة، حلقة نقاشية في 25 يونيو الماضي بعنوان «موازين متحركة: المسارات المحتملة للتفاعلات الداخلية والإقليمية في الشرق الأوسط». شارك في الحلقة عدد من كبار الخبراء والأكاديميين والدبلوماسيين في مصر والوطن العربي، فضلاً عن مجموعة من الشباب المتميز المتخصص في قضايا مصر وإقليمها سواء العربي أو الشرق أوسطي. وخصصت الجلسة الأولى للحديث عن «تصحيح المسار: إعادة بناء الدولة الوطنية في الشرق الأوسط» وتحدث فيها ثلاثة مشاركين عن الأنماط المختلفة لعملية إعادة البناء هذه، وأطرافها الفاعلة، والتحديات التي تعوقها، وبدأ رئيس الجلسة -وهو واحد من أبرز علماء السياسة في مصر والوطن العربي- بتمهيد لموضوعها تضمن أفكاراً بالغة الأهمية للتحليل والنقاش، وأبدى في سياق إحدى هذه الأفكار تحفظه على تعبير «إعادة بناء الدولة الوطنية»، لأنه يعني ضمناً أن الدولة الوطنية قد انهارت بينما واقع الحال أن هذا لم يحدث. ربما يعاني بعض هذه الدول أو حتى كثير منها من عدم استقرار ظاهر ومتزايد، ولكن حالة الانهيار لم تصبه بعد. وقد أثار هذا الرأي عندي شجناً قديماً أخذ يلح عليّ منذ الغزو الأميركي للعراق في 2003 ويعاودني كلما وقع حدث جلل في إحدى الدول العربية، وعندما حل دوري في النقاش تحدثت عن هذا الموضوع تحديداً.

بدأت مداخلتي بسؤال استفزازي: هل لدينا في المنطقة العربية دولة وطنية أصلاً تماثل الدولة- الأمة nation -state التي تطورت بصفة عامة على نحو طبيعي فلم تعان معاناة أساسية تتمثل في نزاعات داخلية أو خلافات حدودية مزمنة؟ ربما يمكن إطلاق وصف «الدولة الوطنية» على عدد من الدول العربية لكنه ليس بمقدورنا أن نطلق الوصف ذاته بضمير علمي مستريح على عدة دول عربية أخرى، بل إنه حتى الدول التي يكون مقبولاً أن يطلق عليها وصف «دول وطنية» تعاني دون شك من مشكلات بعضها حقيقي في هذا الصدد. وأرجعت السبب في سؤالي هذا إلى الطريقة التي نشأت بها الدولة الحديثة في الوطن العربي في أعقاب انهيار الدولة العثمانية وتفككها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى حيث لعبت العوامل الخارجية متمثلة في دول الحلفاء المنتصرين دوراً أساسياً في هذه النشأة، فأنشئت دول لم تكن موجودة أصلاً، وضُمت أقاليم إلى دول لم تكن تابعة لها من قبل، وقسم ما كان واحداً، وقد كان ممكناً أن تمثل هذه الأعمال خطوة في الطريق إلى دول وطنية حديثة لولا أنها بنيت للأسف على حسابات سياسية ومصالح قوى استعمارية كبرى.

وهكذا عانت هذه الدول على نحو مزمن أحياناً من نزاعات داخلية وخارجية استنزفت مواردها فيما لا طائل من ورائه. ومن ناحيتنا ساهمنا في هذه العملية ببنى قبلية تنطوي على خلافات بل صراعات داخلها أحياناً، وتركيبة طائفية قلقة تارة بين المسلمين والمسيحيين وأخرى داخل الدين الواحد كما في حالة التوتر الطائفي السني- الشيعي، وأقليات قومية لعبت دورها في إضعاف الدول التي تنتمي إليها، خاصة أنها لم تتمتع عادة بمعاملة عادلة منصفة تقوم على مبدأ المواطنة. وترتبت على كل ما سبق ظروف مثالية للتدخل الخارجي الإقليمي والعالمي في شؤون دول عربية عدة، كما في حالات السودان ولبنان والعراق في أوقات مختلفة.

فإذا انتقلنا إلى الأمثلة الواقعية أبدأ بالعراق الذي يواجه ما يواجهه حالياً من مخاطر جسيمة على كيانه الوطني بسبب الملابسات السابقة، غير أنني لا أبدأ بالتطورات الأخيرة وإنما أعود إلى أواخر خمسينيات القرن الماضي عندما بدأ الصراع بين أكراد العراق وسلطته المركزية. صحيح 
أنه كانت هناك عوامل ذاتية لهذا الصراع تتعلق بشعور الأكراد بالظلم والتهميش ولكن المؤكد أن القوى الغربية لعبت دوراً في الحث على هذا الصراع وإذكائه، وإلا فلماذا لم ينشب إلا بعد نجاح الثورة العراقية في 1958 التي انقضت على نظام موالٍ للغرب وانضمت إلى حركة المد القومي العربي، وقد ظل هذا الصراع يستنزف العراق حتى نجح صدام حسين في وقف التمرد بصفقة عقدها مع شاه إيران في الجزائر عام 1975 توقف بموجبها التأييد الإيراني للأكراد مقابل قبول صدام حسين وجهة النظر الإيرانية بشأن مشكلة شط العرب. ولاحقاً تم التوصل إلى صيغة مناسبة لحل المشكلة الكردية تقوم على أساس الاعتراف بهم كقومية وبلغتهم كلغة رسمية ثانية مع العربية ووجود نائب كردي لرئيس الجمهورية وحكم ذاتي، ولكن مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية تكفلت بإجهاض هذه الصيغة وبصفة خاصة التلميح إلى عدم الرضا عن السلوك الكردي إبان الحرب العراقية- الإيرانية (1980-1988)، وفيما بعد استؤنف صراع الأكراد مع سلطتهم المركزية في مناسبات متفرقة كان أخطرها ما حدث من تمرد كردي في أعقاب إخراج القوات العراقية من الكويت في 1991 وقمع وحشي لهم. ومع وقوع الغزو الأميركي في 2003 غذت قوات الغزو النعرات الطائفية والقومية بحيث أصبح سيناريو تفكيك العراق إلى ثلاثة كيانات على الأقل وفقاً لخطوط طائفية وقومية احتمالاً قائماً إن لم يكن مرجحاً. وقد لفتني بشدة أن صدام حسين في مواجهة الغزو وبعد أكثر من ثلث قرن على حكم يُفترض أنه حديث ويستند إلى حزب سياسي علماني، يخاطب عشائر العراق ويستنهض هممها للدفاع عن العراق وليس قواعد حزبه والقوى السياسية التي يستند إليها، وهكذا فعل الغزو الأميركي من خلال تجربة الصحوات، والآن يتعرض العراق لخطر تفكيك حقيقي لأن نظام حكمه المغرق في طائفيته جعل قطاعاً واسعاً من سنة العراق لا يتعاطف معه ويؤيد تنظيماً إرهابياً كحركة «داعش». فيا لضيعة الدولة الوطنية!

ولا ينفرد العراق وحده بهذا الخطر بطبيعة الحال، فقد انهارت دولة الصومال وتفككت من قبل في تسعينيات القرن الماضي، وأمعن نظام الحكم السوداني في سوء إدارة مشكلة الجنوب حتى اضطر إلى قبول حق تقرير المصير الذي فصل جنوب السودان عن شماله، وعانى لبنان غير مرة من أزمات كيانية حقيقية، ويواجه اليمن مخاطر دائمة على وحدته لم تعد للأسف تحدث على خط شمال- شرق- جنوب فحسب وإنما تعدته إلى أبعاد طائفية بعد تفاقم ظاهرة الحوثيين ناهيك عن الخلافات القبلية المزمنة. وفي أعقاب «الربيع العربي» ظهرت اتجاهات تفكيكية في شرق ليبيا، كما أن الأوضاع في سوريا ما زالت مفتوحة على احتمالات بالغة السوء طائفياً وقومياً. وهكذا فإنه ليس من حل لهذا الخطر الداهم إلا بأن ننظر بصدق في أنفسنا ونعمل جادين على بناء دول وطنية حديثة تقوم على مبادئ المواطنة والمشاركة والعدل، وتكون هي خير حماية ضد مخاطر التفكيك والانهيار.

المصدر: الاتحاد