الموسيقى العراقية تتألق خارج البلاد وتخبو داخلها!

منوعات

منذ الغزو الأميركي في العام 2003 وسيادة قيم العنف والتحريم، خبا تأثير روحي كان يطبع الحياة الثقافية العراقية، عبر نشاط تبرع فيه فرق وموسيقيون منفردون عزفاً وتأليفاً، ومن بينها «فرقة منير بشير للعود» التي أُسست في تسعينات القرن الماضي، لتظل أمينة ليس على صاحب الاسم الذي تحمله، الموسيقي الراحل ورسول النغم العراقي والعربي والشرقي الى العالم، منير بشير، وإنما على موروث موسيقي كبير لطالما احتضنته بلاد الرافدين. الفرقة التي يقودها العازف والمؤلف سامي نسيم والتي تركت أكثر من أثر طيب في مشاركاتها الواسعة في مهرجانات عربية ودولية بارزة، عاشت تجارب غير سارّة في بلادها خلال الأعوام الماضية، مثلما هي حال تجارب ثقافية عراقية جادة كثيرة، فوقعت ما بين مطرقة الإهمال من جانب المؤسسة الثقافية الرسمية، وسندان قيم العنف والتحريم التي فجرها سقوط الدولة العراقية وصعود مجموعات مسلحة تحرّم الموسيقى والفنون بعامة، لكنها عاندت هذا الوضع الحرج، لتشارك حتى وإن في مناسبات تبدو مسروقة من إيقاع يذهب بأكمله إلى الفناء والخوف والرعب.

وقبل أيام حطت الفرقة رحالها في باريس، وتحديداً في «معهد العالم العربي»، لتشارك في تظاهرة «مهرجان العود الدولي»، وتقدم أمام جمهور من أهل الفن والنخبة الباريسية والجاليات العربية والشرقية، ما اختزنته من مؤلفات نغمية رفيعة دالة على إرث موسيقي عريق لبلادها، فضلاً عن مشاعر خلاقة لأعضائها وقائدها، عبر مؤلفاتهم المعاصرة والمحافظة على روح الأصالة والقيم النغمية الرصينة.

«فرقة منير بشير» بدت كأنها أمام تحد من نوع خاص، يعبر مشاعر الإحباط التي احاطت بأعضائها خلال سنوات صراعهم الصعب في بغداد، لتجد عملها الدؤوب وقد تحول إلى «تحية عظيمة» في ليلة عراقية كبيرة، احتضنتها «قاعة الأعمدة» في «معهد العالم العربي» بحضور جمهور كبير من متذوقي النغم الجميل والنخبة المثقفة والمتخصصين في فنون العزف على «أبي الآلات العربية والشرقية»: العود.

وطوال ساعتين، أحيت الفرقة «ليلة رافدينية» بامتياز، قابلها الجمهور بحفاوة مستحقة، فوقف مرتين مناشداً الفرقة إعادة أكثر من مقطوعة، فلبت الطلب، لتخرج بحسب رئيسها سامي نسيم «بتصنيفها فرقة عربية عالمية وسوف يصدر المعهد أسطوانة باسم الفرقة».

في حفلة «فرقة منير بشير للعود» هرع عراقيون وعرب لتهنئة من كانوا يعزفون على أوتار الاشواق والذكريات، أوتار تنبض بروح الماضي، وفي سياق ثقافي يبدو مصراً على الابتكار رغم قسوة البلاد في إيقاعها العنيف أو في بؤس مؤسستها الثقافية الرسمية.

في اللوفر

وفي متحف اللوفر، كانت للفرقة العراقية الزائرة قصة طريفة تحمل اكثر من دلالة ثقافية وانسانية، فقد قالت معلمة فرنسية كانت تشرح لتلاميذها تاريخ اول مدونة قانونية في التاريخ الإنساني: «ممنوع لمس مسلة حمورابي»، فتقدم اليها قائد الفرقة سامي نسيم وقال: «جدي حمورابي»، فسألته: «هل أنت عراقي؟»، فأجابها «نعم سيدتي»، فقالت لتلاميذها الصغار: «قفوا احتراماً».

وهنا قال نسيم للمعلمة الفرنسية: «سأهديك أسطواناتي الموسيقية العراقية المعاصرة»، فردت بالعرفان «شكرا سيدي، سوف نُسمعها لكل تلامذة مدرستنا».

من باريس، بثت «فرقة منير بشير للعود» أنغامها في هواء طلق من حرية وثقافة ومعرفة واتصال إنساني، لتؤكد علو كعبها في فسحة موسيقى بلادها، كما في النغم العربي والشرقي الأصيل، ولتعاند مظاهر العنف والصخب والإهمال الثقافي السائدة في عراق اليوم.

المصدر: صحيفة الحياة